علامات الفكر المتهافت [10]: تقييد النفوس والعقول عن الرقي السلوكي والمعرفي.
تكريم الإنسان ورفع قدره على كلّ نحو يتأتّى فيه ذلك؛ هو القصد العامّ من إنزال الدّيانات السّماويّة، بل هو المرام والغرض المُدَّعى عن غاية مَن وضع المذاهب الفكريّة كيفما كانت، وإنِ اختلفت مواضيعها وعينت مخصّصة.
والرّفع والتّكريم موضعه الأهمّ بالنّسبة للإنسان هو ما كان منفردًا به عن غيره من المخلوقات الأخرى، وهو العقل، والرّوح، والنّفس الملهمة، ثمَّ يليه في الرّتبة المصالح التي بها قيام وصلاح معاشه والمنافع المادِّيَّة والمعنويّة التي يتوقّف عليها وجوده البدنيُّ والنّفسيُّ سالما، مع صلاح العالم بكلّ أجزائه.
والمانح لهذا التّكريم والرّفع للإنسان من هذا الذي ذكر من الدّين، والمذاهب الفكريّة على الوجه الصّحيح المطلوب؛ هو ما منها أزال الأغلال عن النّفس، والرّوح، وأعطى للعقل حقّه في التّقويم، والحكم بتوازنٍ يتحقَّقُ به إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، ونصيبه الممنوح له بالدّليل والبرهان، إذ لا يوصل إلى الحقيقة غير هذا، لأنّه ليس يقابله إلّا طمس حجّةٍ أو إلغاء دليل عقليٍّ، أو واقعيّ؛ وهو ما يؤدي إلى بترٍ في الإدراك، وخطأ في الأحكام، وحجر للأذهان والنّفوس عن إدراك الحقيقة على تمام صورتها. وهذا المانح يتوصّل إلى العلم به بطريق العرض والمقارنة بين ما يمنحه الدّين الحقُّ في هذا الشّأن، وبين ما قد تعطيه هذه المذاهب الفكريّة الوضعيّة منها بإنصافٍ، وبیان کاشف صورة هذا الأمر على ما هي عليه في الواقع.
وإذا تقرّر هذا واتّضح وجهه فإنَّ الوجه الذي يصار إليه في سبيل هذا العرض والمقارنة؛ هو تقديم القول على الموضع الأهمّ في هذا الشّأن، وهو - كما تقدّم ذكره - النّفس، والرّوح، والعقل.
وخلاصة هذا القول على وجه الإجمال: أنّ الدّين الحقَّ هو - وحده - الذي جاء بالوسائل - الشّرائع - الّتي تنفتح بها القلوبُ على الإدراك والاستمتاع بما به تطمئنُّ، فتصير مواطنَ للعلم الصَّحيح المطلوب - الإيمان ولواحقه -، وبذلك تصلح أن تكون معيارًا لتقویم ما يَرِدُ عليها من الخواطر، ومُمِدُّ الأرواح بما به تسعد للأمور النّفسيّة والعوارض الرّوحيّة وآثار الأعمال، حتّى أنّك لتجد من قامتْ به هذه الأشياء يقدّم عليها كلَّ شيء، ونزعها منه كأنّه إفناءٌ له، وما ذاك إلَّا أنه لمّا ذاقها لم يجد شيئًا يقوم مقامها، أو يكون عوضًا عنها وإن منع منها فحنينه إليها يستمر.
وبذلك تكون النّفوس قد مُنحت عملها الطبيعيّ الذي خُلقت له، فهی به محرّرة من الأغلال الّتي تمنعها من تلقّي لذَّاتِها الحقيقيّة الّتي هي حقٌّ شرعيٌّ - دینيّ - وطبيعيٌّ لها.
وهذا العطاء الدّينيّ للقلوب لا مطمع في أن تجد ما هو من جنسه في المذاهب الوضعيّة البشريّة، إذ مبتناها على الصّرف عنه إلى الإغراق للقلوب والنّفوس في أمور أقصى ما تعطيه الإلهاء عن طلب هذا الحقّ بإثارة الشّبهات، وإيقاد نار الشّهوات والعواطف النّاشئة عنها، الشّاغلة للقلوب بتوسّع عريض طويل؛ ينظم كلّ شيء يدخل تحت الملهيّات والمخدّرات، وإن كانت مجلبة للهلاك البدنيّ وغيره، والغرض من ذلك التّعويض عن هذا الحقّ.
وهذا التّصرّف وإن كان قد يُسكِّن ويلهي فإنّه لا يشفي، لما يترتّب عنه من جفاف وفراغٍ روحيّ أليم.
هذا - بإيجاز - أمرُ الْمُعْطى للقلب دينًا، وما يُقدَّم له في الرّأي البشريّ الوضعيّ.
وكما أنّ الدّين الحقّ منح للقلوب هذه المنح المحرّرة لها من تلك الأغلال؛ فإنّه قد حتّم ترقية النّفوس بتطهيرها من رعوناتها المختلفة، وتزكيتها من الرّذائل - کالكبر، والعجب، والنّفاق، والغرور، والجهل - الّتي من الصّعب؛ بل من المحال أن تزول حقيقة - في الباطن والظاهر - بالقوّة والسّلطان والتّرهيب بالأذى.
والسّبيل المسنون دينًا في هذا الشّأن هو إلزام النّفس بالعبادة، وجعل هذه العبادة أساس العبادة البدنيّة، والّتي عليها قيامها، وبها وجودها.
وقد أبرزت هذه العبادة النّفسيّة الباطنيّة في امتثال أوامر معيّنة، والانكفاف عن منهيّات مخصوصة في هذا الشّأن، وهي مذكورة بالتّفصيل في النّصوص الواردة في هذا الموضوع «نصوص القرآن والسّنّة».
ولا تزال النّفس ماضية على مقتضى هذا السّبيل متلبّسة بأحكامه حتّى يقوم بها الإلف لها والتّعوّد عليها على صورة الطبائع العاديّة، وهي قائمة بها على استقامة، إذ هي عبادة واجب عليها التّلبّس بها تلبُّسًا ينسحب حكمه على الوجدان، والرّوح.
وهكذا بالتّدرّج يأتي الإصلاح والصّلاح والتّثقيف على الاستقامة من الدّاخل، الذي يراد به إطفاء نار الشّرّ وإيقاد نور الخير، مع نفاذ ذلك إلى الأعماق، ممّا تنشؤ عنه قوّة التّحمّل والجلد على الأهوال، والرّضى التّامّ بالمُقدّر على تمام.
وهذا تجده باديا يدركه الحسّ في من انحسرت رغباتُه النّفسيّة وشهواته وضعفت؛ حتّى أنه ليكتفي بالكفاف، وبما تقوم به ذاته في أدنى مراتبه، وهو مع هذا خيره مبذول للنّاس، وشرُّه مکفوف عنهم.
وقد يشتدّ به هذا الغنى الباطنيّ - النّفسيّ - فيختار العزلة عن الخلق اكتفاء بهذا الأنس الذي في قلبه، وما يقارنه من مشاعر وواردات روحيّة تسري بين جوانحه وكيانه بالتّعاقب وعلى الولاء، وهو في انتشاء وصفه أحدُهم بقوله: ' لو عَلِم الملوكُ وأبناءُ الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسّيوف'.
هذا - بإيجاز - بعض ما يمنحه الدّين الحقّ للنّفس البشريّة، وما تكون عليه من نعمة وهي متلبّسة به على الوجه الصّحيح.
والنّاس متفاوتون في كسب هذا العطاء وتحصيله على قدر عملهم وبذلهم الجهد في سبيله، والمحصّل على أدناه تجد أنّ في أعماقه حظًّا من الرّضی، والصّبر، وأمور نبيلة، وإن كان ذلك كالثّمد. وذو الرّغبة في المزيد من البسط والتّفصيل لهذا الأمر يدركه في الاطّلاع على النّصوص الواردة فيه 'نصوص الكتاب والسّنّة'، وعلى ما سطّر من أخبار وقصص من ثبت لهم العطاء، وكانوا أحقّ به وأهله.
وربّ قائل يقول: إنّ هذا الكلام وعظيٌّ سرقتْ صاحبه عواطفُه الدّينيّة، فانحرفتْ به عن الإنباء بما تقتضيه العقول والدّلائل الواقعيّة بإنصاف وتجرّد.
وذلك أنّنا نرى نفوسًا كثيرة سعيدة وهي من الدّين وأهله براء، بل هم في نفورٍ شديد من كلّ ما يتّصل بالدّين، وما يذكر به.
وإنّما كانت كذلك لأنّها وُضع لها ما به تستغني عن الدّين وشرائعه أتمَّ استغناء؛ من المذاهب ونظم الحياة المختلفة، وبذلك تكون المذاهب الفكريّة الوضعيّة قد منحت للنّفوس مطالبها أحسن ممّا منحها الدّين.
ثمّ إنّك ترى غير المسلمين على أخلاق نبيلة وتصرّفات سديدة محمودة، وما نرى المسلمين إلّا على نقيض هذا غالبًا، فكيف يُحصر العطاء السّاميّ المطلوب للنّفوس بطبعها فيما سيق لها في هذا الدّين!!
نعم، يقول هذا من يبني الأحكام على الصّور والمظاهر؛ لا على مقتضی البواطن وصدق المشاعر.
وذلك أنّ الدّين الحقّ لا يُقبل فيه من الأعمال والصّفات المكلّف بالتَّلبُّسِ بها إلَّا ما كان فيه الصّدق الباطنيّ، وبذلك يحكم على الأخلاق النّفعيّة بأنّها رذائل، إذ هي من متجلّيات النّفاق. وعلى هذا الأساس كان فيه الصدق الباطني - صدق المشاعر والعواطف - شرطا في قبول كلّ أنواع الصّدق الأخرى؛ كالصّدق في المقال، والصّدق في المعاملة، والدّين الحقّ لا يرضى بغير ذلك، فهو لا يقبل أن تكون البواطن على خلاف الظّواهر.
وأنت لو استنطقت بإنصاف وبنظر ممعن أحوالَ هؤلاء الذين تصفهم بأنّ لهم أخلاقًا حميدةً وتصرّفاتٍ سديدة؛ ستجد أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مظاهر وصور منفصلة عن العمق.
ومن الأدلّة على ذلك صورة الأسرة وحالها عند هؤلاء القوم، فالمعاشرة البدنيّة قائمة فيها على الأخلاق النّفعيّة، وهي قد تمتدّ زمانًا طويلاً، ثمّ إنّك تجد الانفكاك بين أفرادها في جفاف عاطفيّ رهيب، لم تنسج في ذلك الزّمان كلّه على طوله أي رابطة عاطفيّة بينهم، وما انعدام الغيرة بين هؤلاء بعضهم على بعض إلَّا دليل على ذلك؛ إذ الغيرة علامة المحبّة والإجلال.
وهذا يدلُّ على أنّ قلوب هؤلاء لم تكن منفتحة قط، بل كانت مغلقة منقادة لأوامر النّفوس المطلوب بها الشّهوات والانتفاع فقط، وبذلك فهي في حلية نفاقيّة مقيتة. وهذا مدرك بالمشاهدة وشهادة الواقع، وبذلك فهو مدرك بالضّرورة.
والمذاهب البشريّة الوضعيّة هذا إعطاؤها في أعلى مراتبه. وبهذا تعلم أنّها قيّدتِ النّفوس والقلوب عن الاستمتاع بحقوقها الطبيعيّة الشّرعيّة.
فأنت لا يمكن لك أن تنكر أنّ هذا المُعطى الدّينيّ للنّفوس والقلوب أمرٌ زائدٌ؛ على ما تدرکه وتعطاه إذا مُدَّتْ بهذه المادّة المأخوذة من هذه المذاهب مقتصرةً عليها.
كما أنّه لا يتأتّى منك أن تجحد كون هذا المُعطى الدّينيّ نعيمًا مقيما لها، تستمتع بألوانه المختلفة.
وقد تقول: إنّ هذا الاستمتاع والتّمتّع مبنيٌّ على عقائد فاسدة وأمور متخيّلة ساقطة الاعتبار نظرًا وعقلاً، لأنّ مصدرها الدّينُ، والدّين عندي مُلغًی أمره.
نعم، قد يخيّل لبعض النّاس هذا الأمر، لكن نحن في هذا المقام حديثنا عن النّعم والنّعيم الذي تدرکه النّفوس والقلوب وهي متلبّسة بالدّين الحقّ، وضدّه الذي تُعذَّب به وهو على خلاف ذلك في واقع الأمر.
أمّا شأن الصّحّة والبطلان لهذا المعتقد أو ذاك، فهذا المقام ليس محلّ بحثه، ثمّ إنّه ما الذي يضير الباحث عن المتعة فقط من هذا الأمر - الصحة والبطلان - وإن كنا على ثقة وجزم بأن هذا ادعاء باطل مبني على الأوهام الناشئة عن عدم استتمام النظر في هذا الشأن، وبيان هذا قد يكون في موضع آخر.
وبذلك فلنصرف الحديث عنه ولنبقه مُجرى في شأن هذا المعطى الدّينيّ السّاميّ الضّروريّ، وفي شأن هذا الحجر والصّرف البشريّ عن إدراکه بهذه المذاهب، فنقول:
يجب أن يُمكَّن الإنسانُ من كلّ ما يسعد نفسه وقلبه، وما يرقيهما بمنحهما حقّهما المقدّس الذي تقدّم إبداء صورته.
والحقوق الذّاتيّة الغريزيّة قد يرفع منها ما هو مادّيّ بما هو روحيّ؛ وإن كان ذلك لا يحصل إلّا بتربية خاصّة، وتحمل مشاقّ شديدة في الأغلب، ولا يرفع منها ما هو روحيٌّ بما هو مادّيّ إلَّا مع فراغ روحيّ رهيب، وشعور بنقص مجهول المصدر والمطلب، ممّا تولّد عنه الرّغبة في التّخلّص من ذلك بالإغراق في اللّذّات والملاهي، والشّهوات - الملذّات - الّتي قد تؤتى على أقصى ما يمكن، والحاجة إلى ذلك الحقّ الغريزيّ المقدّس ما زالت نارُها ملتهبة في الجوانح.
وقد يتعوّد على هذا الحال حتّى يظنّ أنّ الألم النّاشئ عن هذه الحالة طبيعيّ وعاديّ، ويقال: «ليس في الإمكان أبدع ممّا كان» فيُقلع عن طلب ما به شفاؤه.
وبذلك فإنّ حرمان الإنسان من هذا الحقّ وصرفه عن طلبه بإذكاء الغرائز الأخرى الشّهويّة رغبةً في تعويضه عنه بذلك؛ ما هو إلَّا لون من ألوان الحرمان المضرّ والجور؛ وهو على ذلك غير مجد، لأنّه لا يقع عوضًا عنه في إزالة طلبه، ولا في إثمار أثماره الشّاملة النّفع السّابق إيراد ذکرها بإيجاز.
وربّ قائل يقول: إنّ هذا الحقّ متوقّف تحصيله على الإيمان، وأنّه لا سبيل إليه إلّا بذلك، فالمتلبّس بإنكار صدق الأديان وإن أتى الأفعال البدنيّة المطلوبة دينًا لِكسب هذا الحقّ لن يظفر بطائل.
نعم، هذا صحيح، وبذلك فإنّ هذا أمر يستوجب تأمّلا عمیقا مُصدَّرا باستفسار عن سرّ هذا الأمر ومغزاه، وعلى ماذا يدلّ؟! جليّ أنّ ما ينتهي إليه النّظر في هذا الشّأن هو أنّ هذا التّوقّف هو كتوقّف جميع المسبّبات على أسبابها الموضوعة لها بالخلق، وهو ما يؤخذ منه أنّ تبعيّة هذا العطاء لسببه هذا سنّة كونيّة موضوعة خَلقًا، كمثل السّنن والنّواميس الكونيّة، الّتي قام عليها الوجود مستمرًّا في صيرورته، والّتي يفوت بالإعراض عن العمل بمقتضاها التّمكّن من کسب ما وُضعت له من فوائد ومنافع مختلفة، لتؤخذ منها بالعمل البشريّ.
وأنت إذا أدركت هذا علمت أنّه كما ثبتت السّنن - القوانين - الكونيّة الموضوعة في سبيل الكسب لما يتوقّف عليه وجود الإنسان من غذاء وكساء ونحو ذلك، ولما به صلاح العالم من أمن ونظام، وترق في إدراك المعارف والعلوم المختلفة المقاصد والمواضيع، كذلك ثبت هذا القانون الكونيّ - ترتُّبُ کسب هذا الحقّ على الإيمان - مثلها، بلا فرق، وهذا أمر يشهد عليه الواقع والعقل.
وهذا الثّبوت لهذا القانون يستلزم أمورًا منها:
أ- أنّ الإيمان سبب باطنيّ تلازمه مسبّباته المختلفة، فتوجد بوجوده، وترتفع بارتفاعه، كما أنّها تضعف بضعفه وتقوی بقوّته، وهي مسبّبات يعمّ وجودها ظاهر الإنسان وباطنه، وعلاقته بهذه المسبّبات أمر عجيب.
ب- أنّ المؤمن يعطى نِعمًا ظاهرة باطنة، هي على الكافر محظورة، وإن سعی إليها بكلّ وسيلة، فإنّه لن يظفر من ذلك بشيء، فقد ضُرب بينه وبينها بسور، وإصلاحه متوقّف عليها بلا ريب، وحاجته إليها ثابتة.
نعم، قد تشتدّ به هذه الحاجة، فيطلب ما به تسكن، فيخيّل إليه أنّ بعض الأمور قد تُجدي له نفعًا في ذلك؛ إلّا أنّه في هذا السّبيل كمن اتّخذ الأصنام والأوثان آلهة تعبد.
ت- أنّ المؤمن لا يزيد عليه الكافر بأيّ نعمة، ظاهرة كانت أو باطنة، بل قد يكون المؤمن أكثر استمتاعا وتمتّعا بالنّعم المادّيّة لتوازن طبعه؛ واستغنائه بأدنى اللّذائذ.
ث- أنّ جريان هذا القانون على الخلق صارم؛ إذ هو قائم على العدل الطبيعيّ - المسبّبات تابعة للأسباب -. فكلّ يأخذ ما أتى بموجبه وسببه، عطاء کان أو منعًا، فالمسلم إن نكص على عقبيه كان له ما سعى فيه من انقلاب أحواله المحمودة إلى أضدادها، جزاء وفاقا. وغير المسلم إن طلب الخير في هذا الشّأن وجده، ونال ما طلب، فتنقلب أحواله إلى أضدادها. ولا عبرة - هنا - إلّا بالعمل والكسب.
فالمسلمون اليوم إن كانوا على حال غير مرضيّ فذاك من ثمار سعيهم وعملهم، وتقصيرهم، واتّكالهم على الأمانيّ، وتمسّكهم بالأوهام التي مبتناها على أنّهم إذا كانوا مسلمين فهم في أمنٍ من التّغيّر والإسقاط.
هذا - بإيجاز - ما تيسّر ذكره عن حقّ النّفس والقلب الذي لا يُعدُّ ما صَدّ من الفكر عن كسبه و درکه فكرًا صحيحًا، وإنّما هو شرّ يجب أن يتقّی.
ولا أدري كيف يمكن أن يرجى الرّفع لقيمة الإنسان والتّكريم له من مذاهب مبنيّة على الحطّ من منزلته بدعوى أنّه مثل سائر الحيوانات العجماء إلّا أنّه ترقّی - تطوّر - عنها، فصار إلى ما هو عليه، وهو على كلّ حال منها أصله، والغريزة الجاري سلطانها على كلّ أحواله وتصرّفاته هي الغريزة الجنسيّة؟!
لا أمل ولا مطمع في أن تجد فيما هذا أساسه إلّا ما يكوي القلوب والنّفوس ويسجن الأرواح، ويذكّي نار الشّهوات البهيميّة الّتي لا يختلف عاقلان منصفان في هبوط قدرها جدّا إذا ما قورنت باللّذات الرّوحيّة التي تجتمع فيها الحلاوة والحرّيّة، والشّعور بالكمال، وحصول التّكامل بين جميع أجزاء الذّات، وأنّ كلّ واحد منها قد أخذ حظّه، فرضي به، وبذلك تحصل حقيقة الإنسانيّة مدركة. هذه اللّذّات الرّوحيّة هي حقّ طبيعيّ ومقدّس للإنسان به سعادته، و تمام ماهيّته، وغاية ما يستمتع به، والواقع والحسّ شاهدان على هذا، فلماذا يحرم منه بهذه المعتقدات الفاسدة، الباطلة، ووجود هذه الخصوصيّة الإنسانيّة دليل قاطع على بطلانها.
وهب أنّها صحيحة، فإنّه يجب أن لا نعذّب الإنسان، ونحطّ من قدره بها، فالإنسان يجب أن يحيا سعيدا مكرّما.
هذا ما تيسّر ذكره في شأن التّقييد للنّفوس والقلوب والحجر عليهما من النّاس، وتحريرهما بالدّين الحقّ.
وأمّا العقل فإنّ ظالمه ومهينه هو من جعله معتمدًا في الفوضى، وأساسًا في الانحلال من ربقة الانضباط بالأدلّة والبراهين، ومنعه من المادّة العلميّة الصّحيحة، وصيّر الأوهام مرعاه ومسرحه.
وهو في واقع الأمر أعظم نعمة على الإنسان، إذ هو الآلة التي بها کسب الخير بكلّ أصنافه وأنواعه، وهو المحكّم في كلّ ما يخضع لسلطانه، وهو كلّ ما يدرك فيه الحقيقة كاملة.
والدّين الحقّ أساسه مقتضيات العقول السّليمة وهي المتحرّرة من سلطان الأهواء والنّفوس، فما أثمرته هذه العقول بعد تمام تصوّرها لمواضيع الأحكام، ودرکها للحجج المطلوبة فيها فإنّه يصار إليه على سبيل الوجوب.
والعقل يمنح بذلك حقّ التّقويم لكلّ ما يعرض له وإن كان مأخذه دينيًّا، وبموجب هذا إذا صاحبته عزة الإيمان يكون صاحبه شديد الأنفة والنّفور من التّقليد والتّوجيه الاستعلائيّ والإملاء، وخاصّة إذا كان ذلك ممّن يرى أنّهم يرومون استعباده واسترقاقه؛ بنزع صفة الموجود الفاعل المنفعل بنظره وعمله عنه.
ولا يخفى أنّ هذا المعطى الدّينيّ حقّ كسائر الحقوق الّتي يُحظر نزعها من أهلها، ويجب عليهم أن يأخذوها، وقد يأثمون إن لم يفعلوا.
وبدهيٌّ أنَّ الذي يريد استعبادك على الوجه المذكور يُلزمك بتعطيل عقلك، وتجميد حركته، إذ لا يتأتّى له هذا الأمر - الاستعباد - إلَّا بذلك. ولا يخفى أنَّ هذا جور واعتداء على حقّ إنسانيٍّ مقدّس، وهبة سماويّة لكلّ إنسان.
وإذا تقرّر هذا كلّه وتبيّن أمره ترتّب عنه في الأذهان محقَّقًا أنَّ الصّارفین للإنسان عن تمام استمتاعه وتمتعه بما ركِّز فيه من قوى روحيّة ووجدانيّة ونفسيّة، وعن كمال الانتفاع بقوّته العقليّة والفكريّة هم هؤلاء الذين يدّعون أنّهم دعاة تحرير الإنسان من القيود والأغلال التي تقيمه على العجز عن بلوغ غاية متعته والحرمان من درك سعادته والتّخلّص من الشّقاوة الّتي قد تلحقه.
وقد يكون هذا الأمر منهم عن غير قصد، وذلك لأنّ الإدراك الآدميّ لحقائق الأشياء من جميع الجهات أمر لا سبيل إليه؛ وخاصّة الحقائق القائمة بذات الإنسان وكيانه، فإذا أدرك من ذلك جهة خفيت عليه جهات كثيرة منه، فهو لا يملك من العلم ما يمكّنه من الجريان على العدل والتّوازن فيما يسوقه من الأحكام في هذا الموضوع، وبذلك يكون جائرًا في ذلك إذ يقدّم جلب مصلحة على درء مفاسد، ودرء مفسدة على جلب مصالح كثيرة، فكان كمن يبني قصرا، ويهدم مصرا، تراه يرقع جهة في النفس البشرية ويخرق جهات أخرى منها، هي أهم ممّا يرقّعه بل لا قيمة لهذا الذي يرقعه بخرق ذلك الذي خرق، ولا فائدة فيه في واقع الحال.
وقد يكون ذلك منهم عن قصد للتّضليل بذلك والتوسّل به إلى الاستحواذ على القلوب والعقول التي قد تتخدّر بذلك وتسكر به، وهي غير واعية بواقع الحال.
وعلى كلّ فإنّ هؤلاء هم من حجروا وقيّدوا وألجموا العقول والنّفوس والرّوح عن حرّيّتها، وعن درکها لحقوقها المقدّسة الّتي تقدّم بيانها، فتأمّل بإنصاف.
يتبع...
إضافة تعليق
أوقات الصلاة
القائمة البريدية
تابعنا على الفيسبوك
إحصاءات الموقع
متصل الآن:2
اليوم:10
الأمس:392
هذا الأسبوع:2213
هذا الشهر:9245
هذه السنة:93816
منذ البداية:387540