علامات الفكر المتهافت [9]: إنكار جريان السنن الجزائية المترتبة على العمل بالقوانين الشرعية، ووقوعها على الناس.
ممَّا يعدُّ إنكارًا للواقع ومقتضى الحسِّ والتّجربة إنكار وجود سنن كونيّة يجري حكمها على القلوب والنّفوس وهي - أي هذه السّنن - آثار مترتّبة على السّلوك العمليّ والنّظريّ لأيّ فرد في شأن الشّرائع الدّينية، وملازمة له تلازم السّبب والمسبّب العاديين.
وهذا التّلازم الوجوديّ أمر أقرَّته النّصوص الشّرعيّة، وبيَّنتْ أنَّه قانون كونيّ، وبذلك فهو أمر مُتحدًّى به.
والنّصوص الواردة في هذا الأمر كثيرة جدًّا، إذ جميع ما يرتّب فيه الوعد والوعيد على عمل ما ومصبُّه القلب والنّفس من تلك النّصوص؛ هو من هذا الصّنف.
وهذا المقرّر في هذه النّصوص قانون وناموس جار على الخلق بشهادة الواقع والمشاهدة والتّجربة على ما يظهر، فما وُعد به أهل الإيمان من الصّفات النّفسيّة والقلبيّة الخاصّة والسّامية إن هم مضوا على الاستقامة - وهي أن يكونوا ماضين على الامتثال لما أمروا به، والانكفاف عما نهوا عنه - يأتيهم فتتحلّى به قلوبهم وتكتسي به نفوسهم.
وممَّا وُعدوا به كسب الإيمان والتّربيّة والإخبات - وهو وصف مركَّبٌ من أوصاف مفصّل في القراءات نفسه - والاهتداء إلى الفرقان - التّفرقة والتّمييز بين الحق والباطل - بالإيمان، والاطمئنان بذكر الله - تعالى - وقوّة التّحمل للمشاق والمصائب بموجب الرّضى بالقدر والقضاء، وغير ذلك ممَّا يعلم من نصوص القرآن والسّنّة الواردة في هذا الباب.
وهذا الأمر - أيضًا - جار في شأن غير المؤمنين فإنّهم أوعدوا بضدّ جميع ما وعد به هؤلاء المؤمنون على صورة التّضادّي التّام. وهذا كلّه شيء جار أمره في الواقع، مشاهدٌ لا ينكره إلَّا معاندٌ للحقائق، مكابرٌ.
نعم، في سبيل الوصول إلى إدراك هذا الأمر على بصيرة يمرّ النّظر بمراحل بعضها يهدي إلى بعض على الولاء، إلى أن يدرك ذلك بيِّنًا.
ومآخذ الأحكام من هذا الموضوع ومداركها، منها:
أولاً: أنَّ إدراك وجود التّرابط السّببيّ بين هذا العمل وبين هذه الصّفات - السّنن - الّتي ترد على القلوب والنّفوس لا سبيل إليه بالنّظر العقليّ ولا بأيّ وسيلة معرفيّة بشريّة أخرى من قبل ورود الإعلام به في النّصوص الشّرعيّة، ومن ذلك علمه من علمه.
وإنَّما كان فوق الإدراك البشريّ لأنَّه لا توجد مناسبة عادية معقولة تكون رابطة بين الطّرفين يتوسّل بمعرفتها إلى هذا الإدراك.
ووصف خصائص غيبيّة لأمر غيبيّ مع صدق ذلك وتحقّقه في واقع الأمر وفي حقّ ما يقود الجسد ويحكمه وهو القلب والنّفس أمر مثير للنّظر والاندهاش، وبذلك فإنَّه يجب أن يعطى مقتضاه الذي يجب أن يحال أمر تقريره على أرباب العقول السّليمة، وأهل الإنصاف.
ثانيًا: جريان بقاء هذا الأمر باستمرار وبقاء موجباته وارتفاعه بارتفاعها.
وهذا دليل على أنَّ هذا التّرابط ينزّل منزلة التّرابط الجاري بين الأسباب والمسبّبات العاديّة: الحسّيّة.
والقائل بخلاف هذا ينقض مقالة تغيُّر أحوال وصفات القلوب والنّفوس في هذا الشّأن، وتعاورها وهي أضداد.
وأيُّ حال اتّصفتْ به النَّفسُ أو القلبُ من هذه الأحوال إن لم يمدّ بما به استمراره وبقاؤه - وهو العمل المذكور - فإنَّه يزول، كسائر الأعراض.
وهذا أمرٌ يعلمه من راقب القلبَ والنَّفسَ وهما تتقلّب بهما الأحوال، وتتعاقب عليهما الأعراض المتناقضة، وكلُّ يرد بورود موجبه، ويرتفع بارتفاعه.
ثالثا: ثبوت التّساوي في أحوال قلوب المؤمنين في هذا الشّأن على مرّ الأعصار والأزمنة، سواء منهم من كان متعلّما أو أمّيًّا، فلا فرق بينهم في ذلك على الجملة، وربَّما كان الأمِّيُّ في ذلك أرسخ. ومثال ذلك جارٍ في شأن غير المؤمنين فالتّسويّة بينهم في هذا الأمر - حالة القلوب والنّفوس - ثابتة في الجملة.
وهذا يدلُّ على أنَّ هذا الوصف نفسيٌّ قلبيٌّ في حقيقة أمره، إذ لو كان أمرًا فكريًّا لحصل التّفاوت في شأن إدراكه وتحصيله، وقد يُصدُّ عنه البليد، ومن لا طاقة له على تحصيله.
ولمَّا كانت هذه التّسويّة حاصلة في هذا الأمر، امتدَّتِ المساواةُ بين أفراد كلّ طرف من الطّرفين - المؤمنين والكافرين - إلى المساواة في طرق التّفكير والاستدلال وغير ذلك من صنف هذه الأمور.
فأهل الإشراك والإلحاد قديمًا وحديثًا لا يفتؤون باحثين عن مستندات وهميَّةٍ متخيَّلةٍ يُسندون إليها الحقائق القائمة بالواقع - كالإيجاد والتّدبير -، ويجدون ضيقا نفسيًّا شديدًا قارًّا في أعماقهم وجرحًا عميقًا غير عادي في مجرى إسناد هذه الحقائق إلى الخالق - سبحانه -، ولا يكادون يتخلّصون من ذلك الضّيق والحرج حتَّى ينكروا هذا الأمر، ويستروحون بوجود ما هو بديل وهميٌّ عن ذلك، وإن كان هذا قد يثير العجبَ من جهة أنَّ هذا البديل - الوثن - أحيانًا لا وجود له حقيقة، أو من جهة أنَّه لا تقوم به أي صلاحيّة، أو قبول واقعيّ أو عقليّ يحقّ به ثبوت هذا الإسناد.
وهذا لا يجري حكمه على الوثنيّين القدامى الذين صنعوا الأصنام والأوثان ثم عبدوها، وإنَّما يسري على الوثنيِّين المعاصرين الذين يسندون كلَّ شيء يتعلَّق بالإنسان؛ من أخلاق أو دينٍ أو سلوكٍ اجتماعيّ أو فكريٍّ إلى أوثان جديدة، ومنها: الضمير والمجتمع، والنفس، والأمل، والطبيعة.
وهذا أمرٌ لا يليق بأهل العقل، ولا يوافق حالهم، لأنَّهم أهل نظر وعمل بالبراهين ومقتضيات الواقع، لا أهل أوهام وتخيّلات مضطربة.
فتحريف هذا الضّغط النّفسيّ وصدُّه لهم عن الالتفات إلى ما يجب عليهم اعتباره في هذا الشّأن كأنّهم أسرى له؛ أمرٌ صيّرهم في بؤس نفسيّ شديد، وانحطاط في الفكر لا يخفى، حتَّى إنَّ العقل ليقضي بأنَّ مصدر هذا الذي عليه هؤلاء في هذا الشّأن لا يعقل كما أنَّ مصدره غامضٌ.
وأمَّا أهل الإيمان بالخالق فإنَّهم - كما يبدو في حالهم - قد انسجمت عقولهم ونفوسهم ومقتضيات الواقع - واقع الموجودات ومآخذ أحكامها - وبذلك انتظمت أحوالهم الظّاهرة والباطنة واتّحد مستقاهم، وهذا أمر سار عليهم على مدى الأزمان والأعصار بلا فرق مع تفاوت بينهم في ذلك.
وهذا ليس من باب حكاية أحوال أو ذكر صفات لتصوّرها فقط، وإنَّما إثارة لأمور واقعيّة ثابتة تتولّد منها بالنّظر أحكام عقليَّةٌ معتبرة، يفهم بمقتضاها هذا الموضوع، أو يرشد إلى فهمه.
رابعًا: تعيين المادّة العمليّة - نوع السّلوك العمليّ - الّتي يترتّب عليها جريان هذه السّنن، وبيان هذه المادة بالتّنصيص عليها. والظّاهر أنَّه تنشؤ عن هذه المادّة العمليَّة طاقة تُوجِّه النَّفسَ والقلبَ وتقودهما.
هذه الطاقة تتجمّع من هذا السّلوك العمليّ، ثمّ أنّها تختلف باختلاف نوع ذلك السّلوك.
فمنع النّفس عن الشّهوات والرّغبات إذا حصل امتثالاً للأمر الشّرعيّ، وعلى الوجه الشّرعيّ المحدّد تنشؤ عنه طاقة روحيَّةٌ تخالطها الأشياء التي تقدّم ذكرُ أنَّها موعودةٌ لأهل الإيمان، تُعطاها قلوبهم ونفوسُهم.
ولا يمكن نشوء هذه الطّاقة إلَّا بهذا المنع - الكفّ عن المحرّمات - على الإطلاق.
وهذا الأمر يسري حكمه كذلك على الأعمال المأمور بها شرعًا، فإنَّها إذا عُملت امتثالاً وعلى الوجه المطلوب شرعًا؛ كانت عنها طاقةٌ روحيَّةٌ تسري أثمارُها على النُّفوسِ والقلوب.
ولا سبيل إلى هذه الطاقة إلَّا بإتيان هذه الأعمال، فطلبها من غير جهتها لا يجدي نفعًا.
وهكذا الحال في حقّ غير المؤمنين، فما يأتي قلوبهم ونفوسهم إنَّما هو من ثمار تصرّفاتهم وأعمالهم - المادّة العمليّة - الّتي نصبوا فيها المخالفة لما أمروا به ونهوا عنه شرعًا.
وهذه الحقيقة يجب أن يتبصّر بأمرها فإنَّها حقيقة واقعيَّةٌ، كما يجب أن تفهم على ما هي عليه من تفصيل في هذه النّصوص، وعلى ما تتجلى عليه في الواقع.
خامسًا: ثبوت كون هذه الصّفات والأحوال القائمة بالنّفوس والقلوب الملحدة والكافرة؛ شاهدة بالقطع على أنَّ هذه القوانين 'النّواميس' جارية على الخلق.
وهذا يتجلّى على بيان تامّ في الكيفيّات الفكريّة والنفسيّة القائمة بهم، ومن ذلك:
أ – بحثهم عمَّا يعتاضون به عن الدّين الحقّ، ووجود الخالق كيفما كان، يبتدرون في هذا الشّأن كلّ ما يخطر ببالهم، وإن كان متخيّلا، مفروض الوجود، ويستروحون إلى أيّ شيء يضعونه بدلاً عن الدّين الحقّ، وعن عبادة الله، سواء كان أمرًا مادّيًّا - كالمجتمع والأوثان - أو معنويّا - كالضّمير والفكر البشريّ -، تراهم في هذا العمل لا يعرّجون على مقتضيات العقول، ولا على أحكام الواقع على الإطلاق، يظهرون كأنَّهم غرقى، يتعلّقون بأيّ شيء يجدونه في طريقهم، وإن كان لا قرار له، ولا ثبات؛ بل وإن كان متخيَّلاً متوهَّمًا.
وهذا البحث طبيعة نفسيّة وفكريّة المشركين والملحدين على مرّ الأعصار والأزمان، فهو لا ينفكّ عنهم، ولا ينفصلون عن سلطانه، فالمشركون القدامى والملحدون المعاصرون لا فرق بينهم في هذا الشّأن؛ وإن اختلفتْ أوثانهم وتباينتِ الشّبهاتُ الّتي تسوقهم في هذا الشّأن.
ب – كيفيّة خاصة في الافتراء، والكذب: 'كيف يفترون الكذب'.
من الأمور الّتي تقضي منها العجب اتّفاق هذا الصّنف من النّاس - من غير قصد منهم لهذا الاتّفاق - على اتّخاذ الافتراء والكذب على الدّين وأهله مطيتهم إلى التّضليل والتّلبيس، وطمس الحقائق.
فأنت لو قارنت ما يقوله العلمانيّون اليوم عن الدّين الإسلاميّ وأهله، وما يقوله المشركون والكفّار عنه منذ زمان البعثة؛ لوجدته كلامًا مأخذه واحد، وجنسه واحد.
انظر ما ورد في القرآن من ذلك وقارنه بما يكتبه ويقوله الملحدون من العلمانيّين اليوم من الكذب والافتراء على الإسلام وأهله؛ لترى هذا الأمر بيِّنًا على تمام، وقد تعجب من هذه المضاهاة والتّشابه.
ج – الإعراض عن الأدلّة والبراهين القاضية ببطلان ما هم عليه من العقائد الفاسدة، ومن التّخيّلات الباطلة القائمة بهم لتخطيهم مقتضيات العقول، وأحكام الواقع.
وبموجب هذا الإعراض انتحوا طريقة البتر للوقائع التّاريخيّة والنّصوص، والمسخ لصورها ومعانيها لتكون على وفق أهوائهم وأمانيهم، وبذلك فهم على الدّوام يسلكون خطًّا جانبيًّا هامشيًّا في النّظر.
وفي وقاحة تشمئزّ منها النُّفوسُ المنصفة يجعلون استنتاجاتهم المبنيّة على وساوسهم المرضيَّةِ أحكامًا معرفيَّةً، وآراء فكريَّةً مع ثبوت إعراضهم المرَضي عن الأدلّة القطعيَّةِ القاضيةِ بما هو الحقُّ والصَّوابُ في ذلك.
وهذا المرض عامٌّ لجميع المشركين والملحدين العلمانيّين، فهم جميعًا منتظمون في سلكه، لا فرق بينهم في ذلك على الإطلاق، فتأمّل أحوالهم في هذا الشّأن بإنصاف تدرك هذا الأمر على الجلاء والوضوح الكامل.
د – تساوي هؤلاء جميعًا في قيام الاشمئزاز من ذكر الله ودينه بقلوبهم، حتّى أنّهم يضجون من ذلك إذا طرق أسماعهم، وربما انتفضوا به كما ينتفض من لسع،.
وكلُّ هذا وما أشبهه إذا أمعنتَ النَّظر تجد أنَّه من متجلّيات هذه القوانين الّتي تعقب العمل المذكور الجالب لها.
وإلَّا فبأيّ شيء يفسّر أن يُقبل في نفوس هؤلاء وقلوبهم كلّ معبود سوى الله - تعالى - كيفما كان ذلك المعبود، سواء كان وثنًا أو غيره !!؟.
الجواب في هذا الشّأن واضحٌ، ولكن لك النّظر والاعتبار والحكم أيُّها القارئ المحترم؛ بعدما تسأل لِمَ كلُّ هذا الحقد الشّديد العجيب على الدِّينِ الحقِّ. ولماذا هذا الاشمئزاز الغريبُ بمقتضى الطّبع البشريّ وواقع الحال من ذكر اسم الله - تعالى -.
إضافة تعليق
أوقات الصلاة
القائمة البريدية
تابعنا على الفيسبوك
إحصاءات الموقع
متصل الآن:3
اليوم:113
الأمس:285
هذا الأسبوع:2028
هذا الشهر:9122
هذه السنة:94061
منذ البداية:400674