شرح نيل المنى في نظم الموافقات: المقدمة
من المقطوع به أنَّ منتهى الطَّلب والغاية المعرفية من دراسة العلوم الشرعية وما به يقتدح زند العقل وتتسع به مدارك الأنظار وتظهر به جميع جهات المنظور فيه على تمام، وما به تتصور ماهيته كما هي في واقع الأمر، وتنكشف به الأغراض من الكلام وتظهر به؛ هو تحصيل النظر الفقهي المستتم في المنظور فيه، حكما كان، أو دليلاً، أو محكوما عليه، أو محكوما فيه، أو علة حكم، أو حكمة، أو مقصدًا شرعيا، وإدراك الحكم الصحيح على ثلَج صدْرٍ وطمأنينة نفس. وأنت خبير بأنَّ ما يصيب النَّظر من الآفات ويجرُّه إلى التعسفات كثير، قد انتشر، منه تقصير الأنظار على جهات في موطن النظر، والانكفاف عن اعتبار ما سواها وان كانت جديرة بالاعتبار، وسحب مقتضى السبر عليها بل وان كانت أقوى وأرجح ما اعتبر واعتد به، وذلك قد يكون عن جهل أو قلة اطلاع، وقصور في الإدراك، وقد يكون عن هوى ورعونات في الأنفس، وغلبة الشَّهوات وهذا أدهى وأمرّ.
وكلُّ ذلك لا يذهبُ غِشاوتَه، ثمَّ يمتد إلى إزالة الأود في طريقة النَّظر وبناء الأحكام إلاَّ هذب النّفوس وترويضها بإرغامها على العمل بمقتضى القواعد العلمية والقيم السامية التي بها جَوْحُ الصَّوارف عن استداد عمل الأذهان واستقامته، وتزكية البواطن من أدرانها.
وقيام هذا الهذب بالنُّفوس يبديه حصول ملكة التَّصرف في هذه العلوم في النَّفس وصيرورتها قائد النَّظر وحركة الذهن، وما به الترقي إلى درك التَّصورِ الصَّحيح، والحكم الصَّائبِ. وأي امرئ يكون ذهنه خِلْوا من هذا فإنه لا يثمر إلاَّ حشفاً ودقلاً من الأفكار والآراء، لا مبالاة بها عند أهل التحقيق والعقول الراجحة القوية الإدراك.
وإذا تقرر هذا لديك، أدركت أنه لا مناص في سبيل درك تلك الغاية من الارتواء من هذه العلوم وتلقيها باستيعاب وتمام تحصيل.
والطَّريق الأحبُّ إلى ذلك هو لىُّ الرُّكبِ والانكباب على دراسة ما انطوتْ عليه بطون الأسفار من أثمار أنظار أولي النُّهى، ومن قواعد وضوابط وقيم يهتدى بها إلى استخراج مضامين مآخذ الأحكام، ومكنونات الأدلة، وتتقوَّم بها الأنظار وتستقيم بها على المنهج المسترشد فيه بمعالم وأعلام ثابتة بالبراهين الشَّرعية والعقليَّةِ والعاديَّةِ التي تزول الرَّاسيات ولا تزول هي، كما تحرر بها الأذهان من ضيق الإدراك وقصر النَّظر وغلبة المزاج وقهر العوائد الصَّارفةِ عن الاعتبار التامّ الواسع الشّامل لكلّ ما تقتضي العقول الرَّاجحةُ وواقع الحال جريان حكم الاحتمال المعتبر عليه.
ومن عيون هذه الأسفار "كتاب الموافقات" للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، وهو كتاب جليل القدر عالي المستوى، قد أثنى عليه جمع من أهل الفضل والعلم، وحلوه بما هو به جدير من أوصاف الشرافة وعظم القدر، وحسن النظم وجمال السبك، وكثرة غلل الأنظار، والجمع بين اعتبار اللفظ الشرعي والمقاصد الشرعية والأسرار، وغير ذلك مما قام به من أوصاف وأحوال، ذكرها من تقدموا، فلا حاجة إلى اجترار ذكرها في هذا المقال.
غير أنه يجب أن نسوق للإفادة ما به يتصور حال هذا الكتاب في الأذهان من ملامح ومميّزات قامت به في بنائه وفيما يصوغ عليه نفوس من ارتووا منه عقولهم من صورة في شأن فهم وضع الشريعة، وفي بناء أحكامها وما يتعلق بذلك. والقول الجملي في ذلك إن هذا الكتاب متضمنه: التنبيه على وجوب الاعتناء بأمور وقعت الغفلة عنها، والتغيير لمفاهيم يجب أن تتغير، والإضاءة لمسالك فقهية معتبرة ينبغي أن تسلك. والأخذ بأمور تربي على ضبط النظر والفهم، وأمور تحمي من سلطان رعونات النفوس وقهر أمزجتها.
هذه أهم ملامح هذا الكتاب بإيجاز وإجمال وَمن تشوّف إلى التفصيل فإن له ملامح تفصيلية متعدّدة:
أحدها: إبرازه لكون دليل العناية جاريا في الأحكام الشرعية وبنية الشريعة فهو قائم بها.
فالعناية الإلهية تخالل وضع الشريعة وتركيبها وما هي عليها من حال.
وَهذا مدرك بأدنى تأمل في كونها موضوعة على صورة روعيت فيها أحوال الخلق كلها بحيث وضع لكل حال منها السبيل الموافق له إصلاحًا، وتعبدًا،كما اعتبر فيها وضع السبيل الذي بسلوكه يجمع بين الأخذ بالحظوظ النفسية المباحة، والإتيان بالواجبات الشرعية، بحيث يعطى لكل ذي حق حقه من غير إفراط ولا تفريط.
وهذا يؤخذ منه أمران:
أـ أن دليل العناية كما هو قائم بالخلق؛ فإنه ـ كذلك ـ قائم بهذه الشريعة، فكلاهما قام به برهان عقلي يقضي بأنَّ هذا كله تقدير العزيز العليم.
ب ـ أنَّ هذه الشريعة مبنية على وفق طبيعة الخلق الظاهرة والباطنية، ولعل هذا من الأسرار الموجبات لخلود هذا الدين، وانتشاره، وجريان حلاوة شعائره وشرائعه في النفوس.
ثانيها: ضبط معاني ومفاهيم الألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية وحد ماهياتها، ويسلك في ذلك مسلك الذكر لكل معنى يستعمل فيه اللفظ الذي قصد إلى ضبط مفهومه الشرعي، باسطًا في ذلك الكلام على وفق ما يقتضيه المقام وعلى قدر ما يتضح به المراد، ثم بعد ذلك يذكر ما به الحكم الشرعي من المعاني قاصدًا إلغاء اعتبارها في هذا الشأن ـ تعلق الحكم الشرعي ـ وإلى إبقاء المعنى الذي يتعلق به الحكم الشرعي مبينًا ذلك بالحجة والبرهان، على طريقة السبر والتقسيم المعروفة.
وهذا ما جرى عليه ـ رحمه الله ـ في لفظ 'المشقة، والصحة والبطلان والرخصة والمصلحة والمفسدة' وما ماثل ذلك من الألفاظ من جهة تعلق الأحكام الشرعية بها.
وما أتى به ـ رحمه الله ـ في هذا الشأن يزول به الغبش على البصيرة فيه، وتنفصل به المعاني بعضها عن بعض، كما يظهر التباين والاختلاف بين أحكامها على ثلج صدر، وصفاء نظر، وبذلك يعلم موطن الحكم الشرعي في ذلك مما سواه بينا واضحًا.
وأنت خبير بأن ما يوقع في الحيرة والخطأ هو الجهل بمفاهيم ومعاني الألفاظ الشرعية التي تدل على معان وصفية تتعلق بها الأحكام الشرعية.
فالمشقة ـ مثلا ـ تطلق على صفات متعددة متفاوتة متنوعة، والرخصة لا تتعلق إلا بنوع معين منها وهو الحرج المرفوع، فمن جهله فإما أن يقول بالرخصة في غير محلها الشرعي، وإما أن ينكر جريانها في موضع هي مشروعة فيه، وهذا الحال يسري على جميع ما تتعلق به الأحكام الشرعية من الألفاظ من هذا النوع، ومن أخطرها وأهمها 'المصلحة والمفسدة'، فضبط معنى هذين اللفظين ينير الطريق في شأن بناء الأحكام على المقاصد، فكان الضبط لها من الأمور المنيرة لسبيل التفقه في هذا الدين العظيم.
ثالثها: توسيع البحث والنظر ومده إلى جميع جهات وأحوال الموضوع المبحوث والمنظور فيه على استقصاء وتمام تفصيل، وكل ذلك قد نظم في سلك منهجي يقتضيه واقع حال ذلك الموضوع.
وقد اعتمد سبيل التوسيع هذا في كل موضوع درسه في هذا الكتاب، ويظهر ذلك باهرًا لفرط تشعبه في مواضع معينة كالأحكام، والأسباب، والشروط، والألفاظ التي تتعلق بها أحكام شرعية ومعنى الاجتهاد الذي جعله أنواعًا، فوسعه بذلك. والأحلى والأجمل من ذلك أنه أي الشاطبي ـ رحمه الله ـ يذكر الثمرات الفقهية والشرعية التي توخذ من كل جهة درست من تلك الجهات، ثم إنه يمد نظره وبحثه إلى ما يكون من أثمار الأنظار في ذلك مستشكلا، ثم يذكر وجه الاستشكال في ذلك وموجبه، ثم الوجوه النظرية والأدلة التي يكون بها تخريج الحكم في ذلك على سبيل ووجه ينفصل به عن ذلك الإشكال.
وهذا كله من الثمرات المعرفية المجتناة من الاطلاع على ما سطره ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا الموضوع.
رابعها: التنبيه والاستحثاث على وجوب اعتبار واستحضار أحوال القلوب ومقاصدها في مجاري بناء الأحكام الفقهية، وذلك لأن القلب تجري على أفعاله الأحكام الشرعية كما تجري على سائر الجوارح، ثم إنه بما قام به من حال وقت كسب العمل بالجوارح يعرف حكم ذلك العمل ومنزلته.
وقد بسط الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ القول في هذا الشأن، فما فتئ ذاكرًا له في كل موضع يتأتى له فيه ذكره، كما بين على تفصيل.
إنّ موافقة قصد المكلف للقصد الشرعي من شرعية الحكم في العمل هو ما به يصح ذلك العمل شرعًا، ويكون به التقرب لله رب العالمين، وإن مخالفة قصد المكلف للقصد الشرعي عينًا في ذلك مثمر للفساد، والإثم.
وإنَّ ما يكون مخالفًا على وجه ليس فيه المخالفة العينية هو محل خلاف ونظر فقهي، فالمدار في الحكم فيه على الترجيح. وبهذا تعرف أحوال القصد المصاحب للعمل، وأحكامه، ولا يخرج قصدٌ عن هذه الأقسام.
وهذا إدراكه يثمر في النفس أمورًا منها:
أـ وجوب طلب العلم بالقصد الشرعي على المكلف في كل عمل عزم على إتيانه، حتى يعلم ما يأتي وما يذر من المقاصد التي تعرض في النفس، وتقوم بها.
ب ـ وجوب إلزام النَّفس بالموافقة للشرع في ذلك وترويضها عليه.
ج ـ كسب التبصر بأحكام القصود، وأحوالها والعلم بما يكون الحكم فيه منها معلومًا قطعًا، وما يكون فيه منها محل اجتهاد، ونظر.
د ـ استفراغ الجهد في ربط القصد الشرعي بقصد المكلف في العمل، والنظر، وجعل ذلك أمرًا لا ينفك عن البال في بناء الأحكام والعمل.
والمتأمل لكلام الشاطبي في هذا الكتاب؛ يجد هذا الأمر من أهم ما يسعى إلى نقل العقول إلى اعتباره والاعتناء بأمره.
خامسها: ضبط سبيل النظر في النصوص الشرعية وأخذ الأحكام منها وذلك بالالتزام والتقيد بحدود اللسان العربي، والانكفاف عن تخطي ذلك.
وهذا أمر قد احتج عليه بما يراه من الأدلة والحجج مثبتًا له، غير أن هذا مشعر بتأثر الشاطبي بالظاهرية في هذا الشأن، إذ يلمح في سبيله في هذا الموضوع ضرب من الحَجْر على النظر واتصاف بالجمود.
لكن هذا الحكم الذي يسبق إلى الأذهان في أول النظر إلى هذا الموضوع يزيله ما جرى عليه من البحث عن أسرار الشريعة وعللها ثم ما جرى عليه من منهج في اختياره لهذا الرأي، فإنه ما أتاه إلا عن اطلاع عن الأدلة التي يعتمد عليها في ذلك ونظر تام في قوتها الحجية، ثم لما بدا له أنَّ نظره ما قضى إلا بذلك ذكره. وقد يكون غرضه من ذلك الذي يظهر أنه جمود وحجر على الأنظار هو صَدُّ أصحاب الأهواء والضلالة الداعين إلى تخطي ظواهر الألفاظ والأخذ بما يسمونه ببواطنها وأسرارها الخفية التي تدرك بالإشارات التي لا يفهمها إلا ذووا العلم 'اللدني' والإلهام.
وهذا أمر محمود، فإن درء المفسدين عن حياض الإسلام وحرمه أمر واجب شرعا.
فالباطنية شرهم عظيم، ومكرهم خبيث وهم ما فتئوا في كل زمان ومكان يكيدون لهذا الدين.
وهذا الضبط يثمر في النفس لمن عنّ له أنه الصواب إدراك المنهج الموصل إلى أخذ الأحكام من أدلتها على الوجه الصحيح.
سادسها: كشفُ المعتبرات والمستندات الفقهية لآراء فقهية وتصرفات وأعمال عدت خارجة عن القواعد التي يقتضي حالها جريان حكمها عليها، وعن الأدلة الشرعية الشاملة أحكامها لها. وهذا متجل في مواطن:
أحدها: التوجيهات الفقهية التي يوردها بيانًا وحججًا على صحة تصرفات وأحوال من يسميهم بأرباب الأحوال ـ الصوفية ـ. وقد بنى نظره في هذه الجزئية على أمر اختلاف أحوال النفوس، وخصائص البواطن التي يترتب عليها اختلاف القوة والضعف في إتيان الأعمال، وفي السبل المختار سلوكها في التعبد، فالمسوقون بالخوف أو المحبة أو ما يسهل عليهم مشقة العبادة من رجاء وطمع في نيل درجات التقرب لرب العالمين ومقامات الأبرار يسلكون السبيل الذي يوافق أحوالهم، فذهابهم إلى المشقة واختيار العزائم في مواطن الرخصة المباحة لا يضير أمره، بل هو فعل محمود لأنه لا تترتب عليه أي مفسدة شرعية.
وأما من ليس مثلهم في ذلك وإنما يأتي العبادة امتثالا وحظوظه النفسية غالبة عليه فإنه سلك السبيل الذي يجمع به بين تحصيل حظوظه المباحة، والالتزام بعبادة ربه.
والاعتناء بأمور البواطن واختلافها والأخذ بمقتضاها في بناء الأحكام يستحث الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ على عدم الغفلة عنه فهو موضوع بسط فيه الكلام إذ له به فريد عناية واهتمام للغفلة عن اعتباره والعناية بأمره ـ كما يرى ـ.
ثانيها: التوجيه والتخريج الفقهي الذي أورده في شأن ما ذهب إليه المالكية من صحة بيوع وأنكحة فاسدة، والذي بناه على اعتبار ورود وصف آخر على محل الحكم أوجب صحة تلك الأنكحة والبيوع وترتب آثارها.
وهكذا حال المغصوب فإنه قد يملك من جهة تعلق حق الغاصب به بتصرفات له فيه.
ثالثها: إظهاره لوجه صحة نكاح المحلل عند من يرى ذلك، والذي بني على أن السبب الشرعي لا يؤثر فيما يترتب عليه القصد غير الشرعي وغير ذلك مما ذكره في هذا الشأن.
وغير ذلك من المسائل التي وجه آراء أهل العلم فيها، وكان ذلك غامضًا إلا على غائص في بحر النظر من أهل العلم مثله.
والاطلاع على هذه التخريجات والتوجيهات الفقهية يثمر في النفس ويودع في الأذهان أن تلك الآراء الفقهية التي قد ترى ساقطة الاعتبار لأنها لا مستند لها، لها في واقع الأمر ما تخرج عليه من الاعتبارات والقواعد الفقهية.
وهذا يذهب الظن السيئ بالقائلين بهذه الآراء من أهل العلم.
ثم إنه يروض النفس على احترام الرأي الفقهي إذا كان من عالم، وإن كان يخفى علينا مستنده ودليله.
وكذلك يوسع الاطلاع على مدارك الأحكام والاعتبارات الفقهية الدقيقة.
سابعها: بيان أحوال المقاصد الشرعية ومنها - أي تلك الأحوال - كونها منقسمة إلى أصلية وتبعية. وبذلك فإن القاصد لأحد القسمين يصح عمله إلا أن القصد إلى الموافقة الشرعية في الأصلية يكسب الثواب والأجر دون التبعية، فإن أقصى ما تثمره صحة الفعل ودرء البطلان. وقد كرر ـ رحمه الله ـ هذا الأصل إشعارًا منه بعظم فائدته، ومنفعة الاستضاءة به في بناء الأحكام الفقهية.
وذو التزود بهذه الفائدة ـ القاعدة ـ يسهل عليه التفرقة بين حكم المقصد التبعي، والأصلي فيما يعرض له من نوازل ومسائل.
ومنها: كونها تراعي في بناء الأحكام الفقهية وتستحضر للاستضاءة بمقتضاها فيه وعرض الحكم الثابت بالنَّص لمعرفة ذلك الحكم والمقصد الشرعي منه، ثمَّ وضعه تحت كليه الجاري حكمه عليه، سواء كان ذلك الكلي ضروريًّا، أو غيره، فبذلك يتم بناء الحكم الفقهي.
ومن تمام الفائدة في هذا الشأن أن يعلم أن إدراك كون الجزئيات داخلة تحت الكليات الثلاث لا يكون على الدوام موضع القطع، بل قد يعرض في ذلك ما يقتضي الأخذ بالظن فيه، وقد يكون هذا هو الأصل فيما يجري فيه النظر والاجتهاد من ذلك، لأمور تعارضت فيه.
وهذا قد بينه مفصلاً إمام الحرمين الجويني في "مراتب قياس المعنى" من باب ترجيح الأقيسة من كتابه "البرهان"، وفي هذا المعنى قال الإمام الرازي في المحصول: 'إنَّ كلَّ واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم، وقد يقع فيه ما لا يظهر كونه منه، بل يختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون وقد استقصى إمام الحرمين ـ رحمه الله ـ في أمثلة هذه الأقسام ونحن نكتفي بواحد منها قال ـ رحمه الله ـ: "قد ذكرنا أن حفظ النفوس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري. ومما نعلمُ قطعًا انَّه من هذا الباب شرعُ القصاص قي المثقّل، فإنّا كما نعلم أنّه لولا شرع القصاص في الجملة لوقع الهرج والمرج: فكذلك نعلم أنّه لو ترك في المثقّل لوقع الهرج، ولأدّى الأمر إلى أنّ كل من أراد قتل إنسان فإنّه يعدل عن المحدّد إلى المثقّل؛ دفعًا للقصاص عن نفسه، إذ ليس في المثقّل زيادة مؤنة ليست في المحدّد، بل كان المثقّل أسهل من المحدّد، وعند هذا قال ـ رحمه الله ـ: لا يجوز في كل شرع تُرَاعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقّل".
قال ـ رحمه الله ـ فأمَّا إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنه يحتمل أن يكون من هذا الباب، لأنه لا يظهر كونه منه. أمَّا وجه الاحتمال فلأنا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة؛ لتأدى الأمر إلى أن كل من أراد قطع يد إنسان استعان بشريك ليدفع القصاص عنه، فتبطل الحكمة المرعية بشرع القصاص. وأمَّا أنَّه لا يظهر كونه من هذا الباب فلأنه يحتاج فيه إلى الاستعانة بالغير، وقد لا يساعده الغير عليه فليس وجه الحاجة إلى شرع القصاص ها هنا مثل وجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد(1).
ومنها :كون الأدنى منها يخدم -أي يكمل- الأعلى ،فالحاجيات والتحسينيات تخدم الضروريات، والتحسينيات تخدم الحاجيات، وهذا يثمر في الأذهان أن المقصود في ذلك كله إنما هو حفظ الضروريات، فليتخذ ذلك أساسا في النظر الفقهي.
ومنها: أن الاختلال في الضروريات يوجب الاختلال في الحاجيات والتحسينيات، بخلاف الاختلال في هذه فإنَّه لا يخل بتلك ـ الضروريات ـ.
ومنها: أنها غير تابعة لأهواء النفوس، ولا هي معتبرة بها، وإنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، وهذا أصل مهم يجب أن لا يغفل عنه في مجاري الاعتماد على المصالح والمفاسد في بناء الأحكام الفقهية.
ومنها: بيان أنَّ لهذه المقاصد علامات تدل عليها تؤخذ من أحوال الخطاب الشرعي ـ كالأمر والنهي ـ واعتبار العلل والتحديد في المقدار والزمان، والمكان، وغير ذلك مما ذكره في كتاب الأدلة وفي كتاب المقاصد وخاصة آخره، وأعاد ذكره في كتاب الأدلة، وزاد عليه.
وهذا إذا حصل في الأذهان علمت به المقاصد وأدركت في مواطنها، وبأماراتها وعلاماتها الدالة عليها.
ومنها: أنها في شأن الحفظ لها مرتبة بالأولوية، وذلك بتقديم الأعلى منها على ما دونه، على ما تقدم ذكره ولا يخفى ما في هذا من فائدة الترجيح عند التعرض.
ومنها: أن المصالح يلغى اعتبارها إذا عارضتها المشقة غير المعتادة.
وهذا العلم به ينشئ في النفس معرفة الحدود التي تنتهي فيها رعاية المصلحة، وبذلك ينتقل إلى اعتبار المشقة، وبناء الحكم على مقتضاها.
ثامنها: بيان أحوال الأدلة الإجمالية التي تشترك فيها جميع الأدلة والتفصيلية الخاصة ببسط، وبيان ما يبنى على كل حال منها من أحكام ومعارف.
وذلك يبصر بهذه الأحوال، ويودع في الأذهان ما يتعلق بها من أحكام، ويرشد إلى سبل النظر وإعمال الأذهان في ذلك.
تاسعها: التنبيه على تغير نظر المفتي في مواطن الأحكام بحسب أحوالها والأوصاف الطارئة عليها.
عاشرها: بيان أنَّ المقاصد المتعلق بها الحكم الشرعي أقسام ثلاثة:
أحدها: المقاصد الأصلية.
ثانيها: المقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة للمقاصد الشرعية.
حادي عشرها: بيان أن مقاصد المكلف ـ أيضًا ـ على أضرب ثلاثة:
أحدها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية الأصلية.
ثانيها: المقاصد الموافقة للمقاصد الشرعية التبعية.
ثالثها: المقاصد المناقضة لهذه المقاصد كلها.
ثاني عشرها: مد النظر والتأمل إلى بنيته الشرعية التي استبان من حالها أنها متكاملة أحكامها بعضها مع بعض، والشروط فيها مع مشروطاتها، وغير ذلك مما يؤخذ أن الشريعة آية الرحمن في أحوالها، وتوازن شعائرها ومضمناتها، وفي بنائها على نسق منتظم في الإثمار، وموافقة أحوال النفوس والواقع.
ثالث عشرها: بيان كيفية اقتناص القطعيات من الظنيات.
وغير ذلك مما هو من جنس هذه المسائل ـ كوجوب رعاية السياق ـ، وهو كثير.
يتبع ...
ــــــــــــــــــــــــ
1) المحصول في علم الأصول (2/ 221-222).
إضافة تعليق
أوقات الصلاة
القائمة البريدية
تابعنا على الفيسبوك
إحصاءات الموقع
متصل الآن:5
اليوم:108
الأمس:829
هذا الأسبوع:2395
هذا الشهر:8949
هذه السنة:94203
منذ البداية:393947