وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ

مسائل الأمر الأصولية [6]: أدلة المذهب الثاني: مذهب القائلين بأن صيغة "افعل" للندب.

1214 مشاهدة

تمت الإضافة بتاريخ 2021/04/27

 

أدلة هذا المذهب حقيقة؛ هي أدلة في معظمها استنتاجات ذهنية، نوقشت فيها صدق الدلالة في هذه الصيغة بطريقة عميقة. طريقة تمحيص لاستكناه أقصى طاقة دلالة هذه الصيغة بمنهج حواري مركز يثير الخبايا من كل الزوايا.
 
من تلك الأدلة: آراء المعتزلة التي نقلها أبو الحسين وهي تستند في وجهتها على أن الأمر هو الإرادة، وبناء عليه فإن الأمر لو اقتضى الوجوب لاقتضاه إما بلفظه، أو بفائدته التي هي الإرادة، أو بشرطه الذي هو الرتبة، وليس شيء من ذلك يقتضي الوجوب، لكن الإرادة تقتضي الندب على بعض الوجوه. فصح أن الأمر يقتضي الندب.
 
واستدلوا على أن صيغة الأمر لا تقتضي الوجوب بأن الوجوب ليس من لفظها، وبأن صيغتها إنما تفيد الإرادة فقط. واستدلوا على ذلك بوجوه:
 
منها أنه لا فرق بين قول القائل: "افعل" وبين قولك: "أريد منك أن تفعل" فإن كلا منهما يفهم منه أهل اللغة ما يفهمونه من الآخر. ويستعمل أحدهما مكان الآخر، ومعنى أنه لو كانت صيغة "افعل" تمتاز بإفادة الإيجاب ما ناب عنها "أريد منك أن تفعل" وهو لا يفيد إلا الإرادة.
 
وأن صيغة "افعل" تتقلب بين أن تكون أمرًا وبين أن تكون سؤالاً، وإن كان الأمر أعلى رتبة كانت أمرًا، وإن كانت رتبته أدنى من المأمور كانت سؤالاً، ولو كانت تحمل الإيجاب ما استعملت في السؤال.
 
وأن الأمر يفيد أن الآمر مريد للفعل، وما زاد على الإرادة لا دلیل يدل على اقتضاء الأمر له. فلم يجز أن يقتضيه؛ فصح أنه يقتضي الإرادة فقط.
 
وأن صيغة الأمر يجوز استعمالها في التهديد والإباحة، وإنما يتميز منهما بالإرادة، فهي كافية في ثبوت حقيقة الأمر، فلا افتقار بها إلى شيء من كراهة ضد المأمور به ومن غيرها، ولو لم يتميز الأمر من غيره إلا بالكراهة لضد المأمور به، لكان الأمر بالنوافل ليس بأمر على الحقيقة، لأن الله - تعالى - ما كره أضدادها.
 
وأن قول القائل لغيره "افعل" هو طلب للفعل، واستدعاء له، فيجب أن تثبت معه من أحوال القائل ما يطابقه ليكون مستعملاً في موضوعه، والذي يطابق طلب الفعل بالقول إرادته، وما عدا ذلك للحاجة بالمأمور إليه من كراهة أو غيرها.
 
وأن الأمر ضد النهي، ولا معنى لكونه ضدا له إلا أن فائدته ضد فائدته. وفائدة النهي كراهة الناهي المنهي عنه لا غير، فكان فائدة الأمر إرادة المأمور به لا غير؛ لأنها ضد الكراهة.
 
وبعد استعراض هذه الأمور التي يراد بها إثبات كون "الأمر" هو الإرادة قال أبو الحسين: "قالوا فثبت أن صيغة الأمر لا تفيد الإرادة، وليس يخلو إما أن تفيد إرادة مطلقة متعلقة بحدوث الفعل المأمور، أو إرادة عن طريق الوجوب، أو إرادة فعله لا محالة، وليس يجوز أن تفيد إرادة فعله لا محالة؛ لأن المعقول من قولنا: "إن الإنسان يريد أن يفعل غيره الفعل لا محالة"، هو أنه يريد فعله ويكره ترکه، وقد بينا أن الأمر لا يقتضي كراهة الترك. ولو عقل من إرادة الفعل غير ما ذكرناه، لم يكن الأمر يقتضيها؛ لما ذكرناه من الأدلة.
 
وأما إرادة الفعل عن طريق الوجوب فإن عني بها إرادة الفعل لا محالة فقد أفسدناه، وإن عني بها إرادة فعل غير المأمور به، وإرادة أن ينوي المأمور الوجوب؛ فذلك باطل لأنه لا دليل عليه.
 
واستدلوا على أن الإرادة المطلقة لا تقتضي الوجوب بأن الإنسان قد يريد الواجب، والندب، والمباح، والقبيح. والله عز وجل إنما يريد من المكلفين في دار التكليف ما كان له صفة زائدة على حسنه، لأن إرادة القبيح يستحيل عليه لأنها قبيحة.
 
وإرادة المباح من المكلفين لا فائدة فيها، لأنه لا يترجح وجود المباح على عدمه في استحقاق ثواب ومدح. فلم يكن في إرادته فائدة في دار التكليف.
 
وأما إرادة ما له صفة زائدة على حسنه فيحسن من الحکیم، لأن ما له صفة زائدة على حسنه، إما أن يكون ندبا أو واجبا، وإرادة كل منهما يحسن من الحكيم. فإذا حسن ذلك كان الواجب ينفصل من الندب باستحقاق الذم على الإخلال به. وهذه زيادة لا يقتضيها حكم الأصل في كثير من الأفعال، لم يجز إثباتها إلا بدليل زائد، فمتى لم يحصل دليل زائد وجب نفيها. كما أنه لما لم يثبت دليل يقتضي وجوب صلاة زائدة وجب نفيها.
 
- ولما كان اشتراط الرتبة عندهم ثابتًا في الأمر - قالوا: والرتبة أيضا لا تقتضي الوجوب، لأن العالي الرتبة قد يأمر بالندب، كما أنه قد يأمر بالواجب. فلم تكن الرتبة مقتضية للوجوب.
 
ثم أجاب أبو الحسين بما ملخصه - مع تصرف يقتضيه الإيضاح -: أما قولهم "ليس في صيغة الأمر ذكر للوجوب".
 
جوابه: "أنه ليس في صيغة الأمر ذكر للإرادة، ولا لكونه مندوبا". وأما قولهم: إنه لا فرق بين قول القائل "افعل" وبين قوله "أريد منك أن تفعل(1) فجوابه:
 
ماذا يعني لا فرق بينهما؟ هل معناه أن كلا منهما موضوع للإرادة. أو أن افعل وضع لشيء آخر، والإرادة تفهم تبعا له؟
 
فإن قالوا إن "افعل" وضع لشيء آخر، وأن الإرادة تفهم تبعا له؛ فإن هذا إقرار بأن "افعل" موضوع لشيء غير الإرادة، وفي هذه الحالة يلزمهم أن يبينوا أنه موضوع لغير الواجب حتى يتم دليلهم.
 
وإن قالوا أن "افعل" و"أريد منك أن تفعل" موضوعان للإرادة، فإن هذا غير مسلم، لأن "افعل" يفيد أن الفعل مطلوب ومستدعى، والإرادة تفهم تبعا لذلك.
 
و"أريد منك أن تفعل" غاية ما يفيده أنه صريح في إخبارك أنه مريد لا غير.
 
وأما قولهم: "إنه لا فرق بين الأمر وبين السؤال إلا بالرتبة".
 
فجوابه: أن السؤال والأمر لا فرق بينهما في اقتضاء الفعل، فكلاهما يطلب به وقوع الفعل لا محالة، وعدم الامتثال بأي منهما كان الطلب يترتب عنه الذم فاستويا.
 
وأما قولهم: "إن النهي لا يقتضي إلا كراهة الناهي للمنهي عنه". فجوابه أن نقول: بل إن قول القائل "لا تفعل" يقتضي طلب الإخلال بالمنهي عنه، وأما الكراهة فإنما تعقل على طريق التبع من حيث أن من منع شيئا دل ذلك على أنه كاره له.
 
وأما قولهم: "إن لفظة افعل تدخل في أن يكون أمرا للإرادة لا غير، والإرادة لا تقتضي الوجوب".
 
فجوابه: أن قصارى ما يفيده هذا الكلام هو أن الإرادة تصير افْعل أمرًا. وأما ما فيه المناقشة وهو هل "افعل" موضوعة للوجوب؛ فلا علاقة لهذا الكلام به، لأن كون "افعل" لا يصير أمرًا إلا لإرادة شيء، وكون "افعل" موضوعة لإفادة الوجوب شيء آخر.
 
وأما قولهم: "إن لفظة افعل تفيد الإرادة وما زاد عليها لا دليل على إفادتها له". فجوابه: إن أريد أن "افعل" موضوعة للإرادة فقد سبق الكلام على فساده. وإن أريد أنها موضوعة لغير الإرادة، وأن الإرادة تفهم بالتبع فكلامهم باطل.
 
وأما قولهم: "إنه ينبغي أن يثبت من أحوال الآمر ما يطابق قوله "افعل".
 
فجوابه: أن هذا صواب، غير أن قوله: "افعل" يقتضي ظاهره أن يفعل لا محالة. والذي يطابق ذلك هو الإرادة مع الكراهة لضد الفعل، لا الإرادة وحدها. والكراهة لضد الفعل حالة في الآمر تؤثر بدورها كما تؤثر الإرادة.
 
وربما استدلوا على أن الأمر ليس على الوجوب بأن السلطان قد يأمر بالحسن وبالقبيح، ويوصفان بأنهما مأمور بهما على الحقيقة. ويوصف السلطان بأنه آمر على الحقيقة، فلو كان الأمر يفيد الوجوب لما وصف هذين الأمرين بأنهما مأمور بهما.
 
جوابه: أن ما يدل عليه هذا الكلام هو أن لفظة "افعل" متي صدرت من مريد للفعل كانت أمرا على الحقيقة، ولا تدل على أن صيغها التي هي قول القائل "افعل" ما وضعت للوجوب.
 
وربما قالوا: "لو اقتضت الوجوب لكانت إذا تناولت القبيح جعلته واجبا".
 
الجواب: أن هذا قد يفسد كلامنا لو قلنا إن "افعل" تجعل الفعل واجبا، ونحن نقول: إنها موضوعة لاقتضاء الفعل لا محالة. ولا يلزم إذا استعملت في غير الإيجاب أن لا تكون موضوعة له، لأنها مستعملة في غير الإرادة، ولا يمنع ذلك عندهم من وضعها لها، وصيغة العموم قد تستعمل فيما دون الاستغراق ولا تدل على أنها ما وضعت له(2).
 
وقد بدا القائلون بالندب – هنا - بأنهم بذلوا جهدا نظريا على جهتين:
 
الأولى: تثبيت كون الأمر هو الإرادة، وذلك سعيا لتوفير أصل تبنی الآراء المطلوب ترجيحها عليه.
 
الثانية: تفريع تلك الآراء على ذلك الأصل بشكل استنتاجي.
 
وإذا تأملت في هذا المسلك فستجد أن كون الأمر هو الإرادة شيء مبني على أمور أخذت من طبيعة وحال الأمر الذي يستعمل به ویلابسه، وهذا شيء مخالف لما في كلام "المحلى" من أن المعتزلة لما أنكروا الكلام النفسي ولم يمكنهم إنكار الاقتضاء المحدود به الأمر قالوا إنه الإرادة.
 
وهذا يذهب بالفكر إلى أن كلمة "افعل" لما كانت مشحونة بالطلب والاقتضاء لزم البحث عن مصدره، فقال القائلون بالنفسي إنه الطلب النفسي الذي يتجلى في هذه الكلمة وتدل عليه.
 
والمنكرون للكلام النفسي قالوا إنه مشحون من طرف إرادة الأمر به بذلك الطلب. ولكن مسك النظر لديهم يدفع إلى أن اختيارهم لهذا الإلزام بين الإرادة مستنبط؛ لا أنه اضطراري من ضعة الواقع كما قال المحلي وغيره.
 
ومما استدل به القائلون بالندب أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم؛ كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم".
 
ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه عليه السلام رد ذلك إلى مشيئتنا، قال الشوكاني: "وأجيب عن هذا بأنه دليل للقائلين بالوجوب، لا للقائلين بالندب؛ لأن ما لا نستطيعه لا يجب علينا، وإنما يجب علينا ما نستطيعه، والمندوب لا حرج في تركه مع الاستطاعة"(3).
 
وعلى العموم فإن مسلك القائلين بالوجوب يبدو أمام القائلين بالندب متماسكًا قويّا، فقد ذابت صلابة آراء أهل الندب - على ما يظهر - بنقد أهل الوجوب ومناقشتهم.
 
يتبع ...
 
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1) قال الشوكاني: "هذا أشق ما احتجوا به" [إرشاد الفحول (173)].
2) انظر المعتمد (69-75/1) بتصرف.
3) إرشاد الفحول (370/1).

شارك على:

إضافة تعليق

أوقات الصلاة

القائمة البريدية

للتوصل بجديد الموقع وتفريغات الدروس والمحاضرات المرجو الاشتراك بإدخال بريدك الإلكتروني إشتراك

تابعنا على الفيسبوك

إحصاءات الموقع

متصل الآن:5

اليوم:87

الأمس:216

هذا الأسبوع:1747

هذا الشهر:7341

هذه السنة:94140

منذ البداية:360559