مسائل الأمر الأصولية [4]: ماذا تفيد صيغة "افعل" مجردة من القرائن، وعلى ماذا تدل؟
وبعد أن ساد وتقرر أن صيغة افعل حقيقة – من الناحية اللغوية – في الطلب، وأن الطلب – الشرعي – ينقسم – بحسب الأمر – إلى قسمين:
الأول: الطلب الجازم، ويسمى الفعل المطلوب به الواجب.
الثاني: الطلب غير الجازم، ويسمى الفعل المطلوب به مندوبا؛ إذا تعلق بمصلحة أخروية، ويسمى إرشادا؛ إذا تعلق بمصلحة دنيوية.
أقول: وبعد هذا ففي أي من القسمين يكون افعل حقيقة، وفي أيهما
يکون مجازا. وهل يمكن أن يكون حقيقة فيهما معا لاندراجهما في مسمی الطلب؟
وهل يكون الوقف هو الصواب؟ أو الصواب غير ما ذكر؟
الآراء مختلفة في هذه المسألة، ويبدو أن المذاهب وصلت فيها إلى تسعة مذاهب أو أكثر.
الأول: مذهب القائلين بأن صيغة افعل حقيقة في الوجوب فقط، وهو مذهب الجمهور، وصححه ابن الحاجب، والبيضاوي. قال الرازي: وهو الحق.
وهذا مذهب الشافعي، وأكثر المالكية، والفقهاء، وجماعة من المتکلمین كأبي الحسن البصري، وهو قول الجبائي في أحد قوليه. ويقال إن أبا الحسن الأشعري أملى هذا المذهب على تلاميذ أبي إسحاق الإسفرایيني(1).
ثم إن الذين قالوا إن افعل حقيقة في الوجوب اختلفوا، فمنهم من قال: إنها حقيقة في الوجوب لغة وشرعا، وهو رأي الجمهور.
ومنهم من قال: إنها حقيقة في الوجوب شرعا فقط، وهو رأي البلخي، وأبي عبد الله البصري الحسين بن علي - الملقب بالجُعَل - رأس المعتزلة الحنفي المذهب (المتوفى 369 هـ)، والجويني، وأبي طالب.
الثاني: مذهب القائلين بأنها للندب: وهو مذهب أبي هاشم - المعتزلي -، وكثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، وجماعة من الفقهاء، وهو أيضا منقول عن الشافعي، وأبي الحسن بن المنتاب المالكي، وأبي الفرج المالكي(2).
الثالث: مذهب المتوقفين - وهم الذين لم يصدروا حكما، ولم يختاروا رأيا - وهو مذهب الأشعري، ومن تابعه من أصحابه كالغزالي، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وغيرهما كابن سريج أحمد بن عمر بن سريج المتوفى (المتوفى 306هـ) قال الآمدي: وهو - أي الوقف - الأصح.
الرابع: مذهب القائلين بأنها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراکا لفظيا، وهو رأي الشافعي في رواية عنه(3).
الخامس: مذهب القائلين بأنها موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب، وهذا مذهب أبي منصور(4) الماتريدي محمد بن محمد بن محمود (المتوفى 333هـ)، ومشايخ سَمَرْقَنْد.
السادس: مذهب القائلين بأنها للقدر المشترك بين الوجوب، والإذن
والإباحة، وهو الإذن برفع الحرج عن الفعل. وهذا مذهب المرتضى من الشيعة، وهو محمد بن يحيى بن الحسن من أهل صعدة باليمن (المتوفی 310هـ).
السابع: مذهب القائلين بأنها مشتركة بين الوجوب، والندب، والإباحة، والتهديد، وهذا مذهب جمهور الشيعة.
الثامن: مذهب من قال بأنها لإرادة الامتثال، وهذا مذهب القاضي أبي الحسين عبد الجبار - قاضي القضاة - بن أحمد الهمذاني المعتزلي (المتوفى 415هـ)(5).
التاسع: مذهب من قال: إن كانت من كلام الله تعالى فإنها للوجوب، وإن كانت من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها للندب وهذا مذهب الأبهري المالكي - محمد بن عبد الله بن محمد البغدادي (المتوفي 375هـ) -.
وننتقل الآن إلى استعراض أدلة هذه المذاهب، وما قدم من وجوه النظر فيها، ولكن قبل ذلك نريد أن نوضح وجهة نظرنا في هذا الأسلوب ونقول: قد يرى البعض أن تطويل الكلام على هذا الشكل ممل؛ لأنه يعثر الفكر في متصرفه، ويشيك الطريق إلى الحصول على الفائدة. وكثرة الأقوال تشعب الفكر، وتقسم الظن والإدراك؛ فينبهم السبيل إلى المراد، وتختفي طرق الطلب.
نعم، هذا صحيح ولكن ألا ترى أن هذه آراء متباينة وأحكام مختلفة في موضوع واحد، فلماذا اختلفت؟ وعلى ماذا بنيت؟ إنه السؤال الذي يجب أن يطرح لفهم هذه الأشياء من أسسها، ومآخذها وكذلك يقال في كل موطن يشبه هذا. والذي يمكن أن يكون طريقا إلى ذلك الفهم المنشود هو التفصيل، وإدراك الشيء مفصلا ليسري إدراكه مجملا، فلا يجوز أن نفرط في دعوى الاستغناء والتلخيص مع وجود إخلال بما لا يجوز الإخلال به، ونستعجل النتيجة التي لم نسلك سبيل الوصول إليها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1) انظر إرشاد الفحول (169)، والأحكام للآمدي (210/1)، ونشر البنود (149/1)، وفي الإبهاج؛ وهو الذي أملاه الشيخ على أصحاب ابن أبي إسحاق - يعني المروزي -.. (22/1).
2) انظر إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي (198).
3) قال الغزالي: 'وقد صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن بتردد الأمر بين الندب والوجوب' (426/1).
4) نسبه إليه السبكي في جمع الجوامع (375/1)، وكذلك الشنقيطي في نشر البنود (149/1).
5) انظر إرشاد الفحول (169)، وجمع الجوامع (375-376/1)، ونشر البنود (149-150/1).
إضافة تعليق
أوقات الصلاة
القائمة البريدية
تابعنا على الفيسبوك
إحصاءات الموقع
متصل الآن:3
اليوم:109
الأمس:285
هذا الأسبوع:2024
هذا الشهر:9118
هذه السنة:94057
منذ البداية:400670