وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ

مسائل الأمر الأصولية [3]: هل للأمر صيغة تخصه

1289 مشاهدة

تمت الإضافة بتاريخ 2021/04/09

يرى الإمام الغزالي أن هذه الترجمة خطأ - يعني: هل للأمر صيغة تخصه - ويلوح أن الترجمة الصحيحة عنده هي أن يقال: هل "افعل" -بصيغة الأمر - يدل على الأمر بمجرّد صيغته وإن تجرد عن القرائن.

وقد فصل ذلك بقوله: "وقد حكى بعض الأصوليّين خلافًا في أن الأمر هل له صيغة؟ وهذه الترجمة خطأ، فإن قول الشارع: أمرتكم بكذا، أو أنتم مأمورون بكذا، أو قول الصحابي: أُمِرت بكذا؛ كل ذلك صيغ دالة على الأمر. وإذا قال: أوجبت علیکم، أو فرضت علیکم، أو أمرتكم بكذا، وأنتم معاقبون على تركه، فكلّ ذلك يدلُّ على الوجوب. ولو قال: أنتم مثابون على فعل كذا ولستم معاقبين على تر که؛ فهو صيغة دالة على الندب، فليس في هذا خلاف.

وإنما الخلاف في أن قوله: "افعل" هل يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن؟ ..."(1).

في هذه المسألة تظهر قضية "الكلام النفسي" مرة أخرى لتؤثر على مسار النظر عند القائلين به - أي بالكلام النفسي -.

فالشيخ أبو الحسن الأشعري (المتوفي 324هـ) وبعض أتباعه أنكروا أن یکون للأمر صيغة تخصه. والبعض الآخر - من الأشاعرة - أثبتوا أن للأمر صيغة خاصة به وهي كلمة افعل طبعًا.

ويبدو أن الخلاف - هنا - محصور بين الأشاعرة فيما بينهم، وهذا ما يظهر من نصوصهم. قال ابن السبكي في جمع الجوامع: "مسألة: القائلون بالنفسي اختلفوا هل للأمر صيغة تخصه"(2).

وإذا أردنا الاسترسال في الكلام فلا بدَّ أن نضع السؤال الكاشف عن المراد وهو: هل للطلب النفسي صيغة تدل عليه؟(3) ومتى أطلقت انصرفت إليه وحده دون غيره، ويكون بذلك كالحدث في الزمان الماضي الذي تدل عليه صيغة الفعل الماضي التي لا تنصرف لغيره في الحقيقة متى أطلقت.

قال المثبتون لذلك؛ إنها افعل - بصيغة الأمر -.

ولكن "افعل" لا يرد للأمر وحده فقد عدّ له "السبكي" ستة وعشرين معنی قال في جمع الجوامع - وكلامه ممزوج بكلام المحلى -: وترد للوجوب: {أقيموا الصلاة} [الأنعام:72]، والندب: {وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} [النور:33]، والإباحة: {كلوا من الطيبات} [المؤمنون:51]. والتهديد: {اعملوا ما شئتم} [فصلت:40] ويصدق مع التحريم والكراهة. والإرشاد: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة:282]. والمصلحة فيه دنيوية؛ بخلاف الندب ...

وإرادة الامتثال: كقولك لآخر عند العطش: اسقني ماء.

والإذن: كقولك لمن طرق الباب: اُدخل.

والتأديب: كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة وهو دون البلوغ ويده تطيش في الصحفة: "كل مما يليك" رواه الشيخان.

والإنذار: {وقل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار} [إبراهيم:30]. ويفارق التهديد بذكر الوعيد.
والامتنان: {وكلوا مما رزقكم الله} [المائدة:88]. ويفارق الإباحة بذکر ما يحتاج إليه.

والإكرام: {ادخلوها لسلام آمنين} [الحجر:46].

والتسخير أي التذليل والامتهان، نحو: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة:65].

والتكوين: أي الإيجاد من العدم بسرعة نحو: {كن فيكون} [يس:82].

والتعجيز: إظهار العجز نحو: {فاتوا بسورة من مثله} [البقرة:23].

والإهانة: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان:49].

والتسوية: {فاصبوا أو لا تصبروا} [الطور:16].

والدعاء: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} [الأعراف:89].

والتمني: كقول امرئ القيس:

       ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح وما الإصباح منك بأمثل

ولبعد انجلائه عند المحب حتى كأنه لا طمع فيه؛ كان متمنيا لا مترجيا.

والاحتقار: {ألقوا ما أنتم ملقون} [الشعراء:42]. إذ ما يلقونه من السحر وإن عظم محتقر بالنسبة إلى معجزة موسى عليه السلام.

والخبر: كحديث البخاري: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"(4) أي صنعت.

والإنعام: بمعنی تذکیر النعمة نحو: {وكلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة:56].

والتفويض: {فاقض ما أنت قاض} [طه:72].

والتعجب: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال} [الإسراء:48].

والتكذيب: {قل فاتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران:93].

والمشورة: {فانظر ماذا ترى} [الصافات:102].

والاعتبار: {انظروا إلى ثمره إذا أثمر} [الأنعام:99](5).

وإذا سلم کون افعل يرد لكل هذه المعاني فكيف يقال إنه يدل على الطلب. وليس الطلب إلَّا واحدًا من المعاني المختلفة التي يرد بمعناها.

وبذلك يحمل صورة الاحتمال التي تستبطن الإشكال، وتمنع بدون قرينة كافية من الاستدلال.

نعم أبو الحسن الأشعري يرى بأن افعل لا تدل على الطلب إذا تجردت عن القرائن. إلا أن الروايات التي فسرت کلامه اختلفت، بل فيها من فسر كلامه بأنه يرى - أي الأشعري - أن افعل لا تدل على الأمر مع فرض القرائن. وقد اعتبر إمام الحرمين عبد الملك (المتوفى 478 هـ) بأن هذا زلل في النقل، ثم قال - أي إمام الحرمين -: الذي أراه في ذلك قاطعًا به أن أبا الحسن لا ينكر صيغة مشعرة بالوجوب الذي هو مقتضى الكلام القائم بالنفس ... وإنما الذي تردد فيه مجرد قول القائل افعل من حيث ألقاه في وضع اللسان مترددا ... ثم ما نقله النقلة يختص بقرائن المقال على ما فيه - أي هذا النقل - من الخبط، فأما قرائن الأحوال فلا ينكرها أحد(6).

وقد استدل القائلون بأن للأمر صيغة تخصه بعدة أمور منها:

أن السيد إذا قال لعبده: "اسقني" فلم يسقه؛ كان عاصيا، وبذلك يستحسن توبيخه ومعاقبته عند عقلاء العرب. فلو لم تكن الصيغة تدل في الوضع على الطلب والاستدعاء ما حسن معاقبة هذا العبد الذي لم يمتثل ما أُمر به.

ومنها أن أهل العلم قسموا الكلام أقسامًا فقالوا: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار.

فالأمر: قولهم افعل. والنهي: قولهم لا تفعل. والخبر: زيد في الدار. والاستخبار: أزيد في الدار؟ ... الخ.

وأما الحجة التي اعتمد عليها النافون لصيغة تدل على الأمر فقد أجاب عنها المثبتون بأن هذه الصيغة بمجردها موضوعة للاستدعاء. وإنما تحمل على ما عداها بقرينة من شاهد الحال وغيره، وتفارق اللون والعين. فإن تلك الأشياء لم توضع لشيء معين. ولهذا لو أمر عبده أن يصبغ له الثوب بلون؛ لم يستحق الذم بأي صبغ صبغه، ولو قال لعبده: اسقني ماء استحق الذم بترك الإسقاء(7).

والذي يظهر أن افعل جار على سنة الكلام العامة، ألم يقل الشاطبي في المقدمة الثالثة من الموافقات: "وإن كانت - أي الأدلة - متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني، والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيًّا، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، والنقل الشرعي أو العادي، والإضمار، والتخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، وعدم الناسخ، والتقديم والتأخير، والمعارض العقلي.

وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر، وقد اعتصم من قال بوجودها - أي إفادة القطع - بأنها ظنية في أنفسها، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة - أو منقولة - فقد تفيد اليقين. وهذا كله نادر أو متعذر"(8).

وإذا كانت الألفاظ بصفة عامة لا تحمل على معانيها الحقيقية التي وضعت لها إلّا بعد تحقق خلوها مما ذكر من الاحتمالات، فلماذا لا ننظر إلى صيغة الأمر بنفس المقياس، ونقول بأنها حقيقة في "الطلب"، ولكن لا بد من التأكد من كونها خالية من الاحتمالات الأخرى التي ترد بها، شأنها في ذلك شأن الألفاظ الأخرى التي لها حقائق وضعت لها، ولكن لا يحكم لها بأنها على حقائقها إلا بعد التحقق من عدم وجود احتمالات أخرى تجيء بها.

وبذلك يكون الكلام كله في ربقة واحدة، ومن شبكة متحدة، وخاصة في مثل هذه الأحوال، التي يكفي فيها الاحتمال؛ من أجل إصابة نهج مستقیم، ومذهب قويم(9)، تفرح به القلوب، وتنشرح به الصدور.

وبعد هذه النظرة على مذهب الأشاعرة في هذه المسألة، نعرج على مذهب المعتزلة، وهم ليس لديهم مشكل(10) في هذه النقطة، لأنهم لا يفسرون الأمر بالطلب، وإنما يفسرونه بالإرادة، ولما كان الحال على هذا فإن الإرادة لا يمكن أن يقال هل لها صيغة تدل عليها، لأنها ليست شيئا معينًا، فالمرء قد يريد الشيء فيأمر به، وقد يريد أن لا يقع فينهى عنه، وهكذا.

وبذلك يفسر عدم وجود آرائهم في هذا الشأن الذي يعتبر "أشعريًّا" محضًا. هذا ما ظهر لي في هذين المسلکین هنا: مسلك الأشاعرة، ومسلك المعتزلة. والله تعالى أعلم بالصواب.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) المستصفى (204).
2) حاشية البناني (371/1).
(3) لاحظ البنانی ما لاحظه الغزالي من كون هذه الترجمة خطأ. لكن الشربینی نقل عن السعد ما نصه: "لا يبعد أن يقال إن هذه التخطئة خطأ، لأن المراد أن الطلب هل له صيغة موضوعة للدلالة عليه بهيئتها بحيث لا تدل على غيره، كما أن للماضي صيغة كذلك، ولا خفاء في أن مثل أمرت وأوجبت ليس كذلك بل حقيقته الإخبار". حاشية البناني (371/1).
4) رواه البخاري في كتاب الأدب، باب: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الحياء، (22/255).
5) حاشية البناني (1/372، 73، 74).
6) انظر الإبهاج (1/16).
7) انظر تبصرة الشيرازي بتحقيق الدكتور هيتو (23-24).
8) الموافقات (24/1) بتحقيق الشيخ عبد الله دراز، دار الكتب العلمية.
9) قال الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ): "وهل شیء أحلى من الفكرة إذا استمرت وصادفت نهجًا مستقیمًا، ومذهبًا قويمًا، وطريقًا تنقاد، وتبنت الغاية فيما ترتاد" علوم البلاغة (126) تحقیق رشيد رضا.
10) قال الشربيني: "يفيد أن من نفاه - أي الكلام النفسي - لم يقع منه خلاف، مع أن صيغة افعل تستخدم للإيجاب والندب .... ولعلهم اتفقوا على الاشتراك، أو الحقيقة في بعض، والمجاز في الباقي" (371/1). 

شارك على:

إضافة تعليق

أوقات الصلاة

القائمة البريدية

للتوصل بجديد الموقع وتفريغات الدروس والمحاضرات المرجو الاشتراك بإدخال بريدك الإلكتروني إشتراك

تابعنا على الفيسبوك

إحصاءات الموقع

متصل الآن:4

اليوم:94

الأمس:216

هذا الأسبوع:1754

هذا الشهر:7348

هذه السنة:94147

منذ البداية:360566