مسائل الأمر الأصولية 02: حد "الأمر" بمعنى القول المخصوص.
افعل "بصيغة الأمر" فرد من أفراد الكلام، وجزء من ماهيته، وبذلك يسري عليه من النظر والرأي ما يسري على الكلام بصفة عامة. إذ من المعلوم أن الكلام اختلف فيه بين المعتزلة والأشاعرة.
والأشاعرة يرون أن الكلام الحقيقي؛ هو الكلام النفسي(1)، وأما الكلام اللفظي فليس إلا دليلا على الكلام النفسي. كما قال "الأخطل" الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا
إذن الكلام - عند غير المعتزلة - يقال فيه بالاشتراك على المعنى الذي نجده في أنفسنا ويدور بخلدنا، وعلى الأصوات المقطعة المسموعة(3).
ويطلق على الأول: الكلام الذي هو معنی قائم بالنفس.
ويطلق على الثاني: الكلام الذي هو كيفية للنفس.
وعند المعتزلة: الكلام هو الأصوات المقطعة المسموعة كما سبق.
وبناء على هذا الاختلاف في مفهوم الكلام؛ اختلف أهل هذين المذهبين في تعريف وحد الأمر.
فعلى مقتضى ما يرى كل واحد من أهل المذهبين أنه الكلام؛ تحدد وتعرف أقسامه - أي أقسام الكلام؛ کالأمر والنهي -.
ومن ثم فالأشاعرة عرّفوا الأمر بمفهومه النفسي فقالوا: "الأمر استدعاء الفعل بالقول ممن دونه". والاستدعاء طلب، والطلب أمر قائم بالنفس(4).
وكذلك قولهم: "وحده اقتضاء فعل غیر کف، مدلول عليه بغیر کف"(5).
والاقتضاء طلب تحصيل، والطلب - كما سبق - أمر قائم بالنفس.
كما عرفوا اللفظي أيضا بأنه: "قول دال على اقتضاء فعل غير كف"(6).
وأما المعتزلة فقد عرفوا اللفظي - أي الأمر اللفظي – وحدة؛ لأنهم ينفون الكلام النفسي.
قال أبو الحسين البصري في المعتمد: "... حددنا الأمر بأنه قول يقتضي استدعاء الفعل بنفسه؛ لا على جهة التذلل"(7).
وبعد أن ظهر الخيط الفكري الفاصل بين المذهبين - مذهب المعتزلة، ومذهب الأشاعرة - فيما يخص هذا الموضوع تداعی سؤال وانبثق؛ من طبيعة وواقع هذا الخلاف، وذلك السؤال هو: ما الذي يحق له أن يعرف في علم الأصول؛ هل هو الأمر النفسي، أو هو الأمر اللفظي؟
الظاهر أن الأمر اللفظي هو الذي يجب البحث فيه داخل إطار علم الأصول، وذلك أن موضوع هذا العلم هو الدليل السمعي من حيث العلم بأحواله؛ المؤدي إلى إثبات الأحكام(8). والدليل السمعي كلام لفظي لا نفسي.
وقد نص على ذلك الإمام الرازي وقال: "اعلم أن لفظة الكلام عند المحققين منا تقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس، وعلى الأصوات المتقطعة المسموعة.
والمعنى الأول مما لا حاجة في أصول الفقه إلى البحث عنه. إنما الذي نتكلم فيه القسم الثاني(9).
وإذا كان هذا الكلام النفسي لا حاجة إليه في "علم الأصول" ولا تتوقف مسائل هذا العلم على البحث عن معاني هذا الكلام الخافية؛ فلماذا عرفوا - مثلا - الأمر على مقتضى هذا الكلام، ألا ترى سوء الملاءمة بين الجانبين، وإقحام لعنصر له مقامه في غير موضعه؟
هذا أظهر من أن يخفى؛ إلا أن الرؤية لدى المعرفين للأمر بمعناه "النفسي" تكونت من كون الكلام اللفظي ليس إلا دليلا على الكلام النفسي، ومن ثم كان هذا الأخير عمدة.
قال المحلي: - وكلامه ممزوج بكلام المتن -: وأما النفسي وهو الأصل أي العمدة فقال: "وحده اقتضاء فعل غیر کف مدلول عليه" أي على الكف "بغير" لفظ "كفء".
وقال البناني معلقا على قول المحلي: وهو الأصل "أي العمدة لأنه منشأ التعلق والتكليف، واللفظي ليس إلا وسيلة إليه"(10).
إذن هذه هي العلة التي قدمت من جهة من يُعرف الأمر بمفهومه النفسي في أصول الفقه.
ولا يخفى وجه هذه الرؤية، إذ جعل فيها النسب الرابط بين الأمر والكلام النفسي هو الأصالة، والارتباط بينهما ارتباط بين الشيء الثابت الأصيل؛ وبين ما يدل على ذلك الأصيل ويظهره "لأن الطلب النفساني أمر باطن فلا بدّ مما يدل عليه"(11).
ولا يهمنا البحث عن صواب هذا الرأي أو ذاك وإنما الذي يهمنا؛ هو معرفة المنطلق الفكري لهذا الرأي أو ذاك، وبعبارة أخرى البحث عن معرفة الشيء المبحوث فيه ذاتيا.
وبعد هذا التقرير عن جانب من حد الأمر؛ ينبغي الوقوف على ما اشترطه بعض العلماء من أن الأمر لا يكون أمرا حتى يكون الآمر به عاليًا أو مستعليا أو هما معًا.
اشترط العلو المعتزلة - أي أن يكون الآمر أعلى من المأمور - قال الرازی في المحصول: قال جمهور المعتزلة: "الآمر يجب أن يكون أعلى رتبة من المأمور حتّى يسمّى الطلب أمرًا" (1/198).
وكذلك أبو إسحاق الشيرازي، وأبو نصر بن الصباغ - عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد الشافعي المتوفى (477هـ) - والسمعاني - منصور بن محمد بن عبد الجبار، الحنفي ثم الشافعي المتوفي (489هـ) -.
قال ابن السبكي في جمع الجوامع: "واعتبرت المعتزلة، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، والسمعاني؛ العلو"(12).
واشترطت طائفة أخرى الاستعلاء - أي التعاظم - وذلك بأن يكون الطلب بعظمة وإظهار للعلو؛ كان هناك علو في الواقع أو لا.
وممن اعتبر الاستعلاء أبو الوليد الباجي - سليمان بن خلف المتوفی 474هـ - المالكي، وأبو الحسين البصري المعتزلي، والآمدي الحنبلي ثم الشافعي، وابن الحاجب المالكي.
واعتبرهما - أي العلو والاستعلاء معا -(13) القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي المتوفي (422هـ)، وبکر بن العلاء القشيري المالكي(14) (المتوفی (344هـ).
وبناء على رأي هؤلاء الذين يعتبرون ما ذكر؛ يظهر أن الأمر إذا تجرد من هذين الاعتبارين يعتبر طلبا، وإن أطلق دونهما فهو مجازي عندهم.
وإذا كان طلبا سرت عليه الأحوال الثلاثة وهي: أن يسمى التماسًا إذا تساوی الآمر والمأمور، أو أن يسمى أمرًا؛ إذا كان الآمر أعلى من المأمور، أو أن يسمی دعاء؛ إذا كان من الأدنى إلى الأعلى. وهذا مسلك المناطقة في هذا الشأن.
وأما ما اعتمد عليه في إثبات هذه المذاهب المختلفة فإنه يمكن أن يعنون له بواقع الحال من جهة، والنصوص النقلية من جهة أخرى.
فأبو الحسين البصري اعتمد في تأیید ما ذهب إليه على واقع الحال، قال في المعتمد: "وأما الشرط الثاني فبيّن أيضًا، وهو أولى من ذكر علو الرتبة، لأن من قال لغيره "افعل" على سبيل التضرع إليه والتذلل، لا يقال إنه يأمره، وإن كان أعلى رتبة من المقول له. ومن قال لغيره "افعل" على سبيل الاستعلاء عليه، لا على سبيل التذلل له، يقال إنه أمر له وإن كان أدنى رتبة منه. ولذا يصفون من هذا سبيله بالجهل والحمق من حيث أمر من هو أعلى رتبة منه"(15).
وواضح كون هذا الأساس المعتمد عليه هنا موجودًا في الواقع، ومتداولا عرفًا بطبيعة الحال؛ إلا أن النافين لشرطي "العلو" و"الاستعلاء" يعتمدون على الاستعمال الواسع لهذا اللفظ - أي الأمر - بدون بروز ما يدل على وجود ما اشترط في ذلك الاستعمال من العلو، أو الاستعلاء ليكون حقيقيًّا.
قال الإمام الرازي: وقال أصحابنا: لا يعتبر العلو، ولا الاستعلاء. لنا قوله تعالى حكاية عن فرعون أنه قال لقومه: {فماذا تأمرون} [الشعراء85] مع أنه كان أعلى رتبة منهم.
وقال عمرو بن العاص لمعاوية:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني *** وكان من التوفيق قتل ابن هاشم
وقال دريد بن الصمة لنظرائه ولمن هم فوقه:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى *** فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وقال حباب بن المنذر يخاطب یزید بن المهلب أمير خراسان والعراق:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني *** فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فهذه الوجوه دالة على أن العلو غیر معتبر.
وأما أن الاستعلاء غیر معتبر فلأنهم يقولون: فلان أمر فلانًا، على الرفق واللين.
نعم، إذا بالغ في التواضع يمتنع إطلاق الاسم عرفًا، وإن ثبت ذلك لغة".
ثم أشار إلى ما استدل به مشترطًا العلو فقال: "واحتج المخالف على أن العلو معتبر؛ بأنه يستقبح في العرف أن يقول القائل: أمرت الأمير أو نهيته، ولا يستقبحون أن يقال سألته أو طلبت منه، ولولا أن الرتبة معتبرة لما كان كذلك"(16).
ويبدو أن المسلك المتبع في الاحتجاج هنا لتأييد كل واحد ما يراه صوابًا؛ متحد من حيث إن المتكأ عليه هو أن الجميع يرى في اختياره أنه يستند إلى عرف جارٍ، وأمر مشهور متعارف. ومن المعلوم أن كل ما ثبت قدمه عرفا، وصار عامًّا معروفًا؛ فإنه يكون في العقل مقبولاً، وبسرعة فهمه موصوفًا، فلا ترجيح إذا تكافأت الحجج، وإنما يجب الاعتراف بأن في المسألة مذاهب تتكامل فيما بينها؛ لتظهر الصورة الواقعية لما عليه الحال في الموضوع المبحوث.
نعم، إذا بان لك أن في المسألة ما يترجّح به رأي على آخر فلك أن تظهره وتنصر الرأي الحق به وتعليه.
أما وجهة نظرنا المتواضعة فإن اشتراط العلو يعززه قوله تعالى - حكاية عن قوم بلقيس - {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} [النمل:33]. ووجه ذلك أنهم أسندوا إليها الأمر لكونها ملكة عليهم، بعدما نسبوا إلى أنفسهم القوة والبأس الشديد (فتأمل).
وأما الاستعلاء فيستدل له بقوله صلى الله عليه وسلم: "سید الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه؛ فقتله"(17).
ولكن بماذا نصف هذا الرجل المؤمن هل نصفه بأنه عال أو بأنه مستعل؟ إذا وصفناه بأنه عالٍ فذاك هو الحق لقوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مومنين} [آل عمران:139].
وإذا وصفناه بأنه مستعل بحكم أنه ليس ذا سلطة عند أهل الأرض؛ فذلك
وجه من هذه الناحية.
وما ينقص من قوة النصوص ويجعلها ضعيفة هو كونها قابلة لتأویلات مختلفة، وتفسيرات متعددة.
بقيت نقطة أخيرة وهي أن المعتزلة والشيعة يقولون بارتباط الطلب والإرادة، وقد مرَّ الكلام على هذا في مسألة "الحد يصاغ على مذهب واضعه".
وإذا قلنا المعتزلة فلا بد أن نستثنىي أبا علي الجبائي - محمد بن عبد الوهاب المتوفی (295هـ) - وابنه أبا هاشم، لأنهما اعترفا بالتغاير بين مفهوم الأمر ومفهوم الإرادة؛ لكنهما اشترطا الإرادة في دلالة صيغة الأمر على الطلب.
وإذا تأملت باحثًا عن سبب هذا الخلاف الدائر في هذه النقطة، فإن الذي يظهر لي هو أنه آتٍ جوابًا عن مصدر، هذا الذي تقتضيه كلمة "افعل" وما شابهها" من الطلب. فمن رأى أن الطلب أمر باطن قد يحس به من كان في نفسه قبل أن يطلبه فرقًا بين الطلب والإرادة. ومن لا يرى ذلك ربط بينهما - والله أعلم -. وإذا تبيّنت - على قدر المستطاع - بعض أسس الفكر الأصولي في هذه المسألة ننتقل إلى مسألة أخرى.
يتبع ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وربما يعترف به - أبو هاشم - عبد السلام ويسميه الخواطر.. "فعلم أن أبا هاشم إنما خالف في كونه کلامًا نفسيًّا، وجعله خواطر تخطر للنّفس لا كلامًا لها...". (1/370).
2) شرح المقاصد (1/ 78 و370).
(3) قال السبكى الصغير في "الإبهاج": "الكلام عند أصحابنا يطلق على اللساني والنفساني، واختلفوا هل هو حقيقة فيهما، أو في أحدهما على مذاهب: قيل في اللساني فقط، وذهب المحققون منا كما نقله الإمام في أول اللغات؛ إلى أنه مشترك بينهما، وذهب آخرون إلى أنه حقيقة في النفساني فقط، وكلا القولين منقول عن الشيخ - یعنی الأشعري -، ويدل على أنه حقيقة في النفساني قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} [المجادلة:8] وقوله تعالى: {وأسروا قولكم أو اجهروا به} [الملك:13] ...". (3/2).
4) تبصرة الشيرازي (ص:17).
(5) حاشية البناني (367/1)
(6) المصدر السابق.
7) المعتمد (1/49).
(8) انظر إرشاد الفحول (34 و93) الفصل الثالث في المبادئ اللغوية.
9) انظر الإبهاج (2/4).
10) حاشية البناني (1/367).
11) انظر المحصول (1/197). وعلى هذا فالكلام كالقدرة، فإنها قدرة لذاتها، وتتعلق بمتعلقها.
12) حاشية البناني (1/369).
13) قال السبكي الصغير: "والفرق بين العلو والاستعلاء واضح، فالعلو أن يكون الآمر في نفسه أعلى درجة، والاستعلاء أن يجعل نفسه عاليًا بكبرياء، أو غيره، وقد لا يكون في نفس الأمر كذلك، فالعلو من الصفات العارضة للناطق، والاستعلاء من صفات كلامه". [الإبهاج (1/6)]
14) انظر رأي الإمامين: القشيري، وعبد الوهاب في نشر البنود (1/148).
15) المعتمد (1/43).
16) انظر [المحصول (1/199)].
17) رواه الحاكم في المستدرك، وصحح إسناده. قاله الحافظ العراقي في تخريج أحاديث "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالی. (2/338) ط. دار الكتب العلمية.
إضافة تعليق
أوقات الصلاة
القائمة البريدية
تابعنا على الفيسبوك
إحصاءات الموقع
متصل الآن:3
اليوم:98
الأمس:285
هذا الأسبوع:2013
هذا الشهر:9107
هذه السنة:94046
منذ البداية:400659