وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلٗا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ

مسائل الأمر الأصولية: مقدمة

1451 مشاهدة

تمت الإضافة بتاريخ 2021/03/30

 
لقد نوقشت صيغة فعل "الأمر" مناقشة مستفيضة، وتناطحت فيها العقول تناطحًا في علم الأصول. وذلك أن الأمر ركن التشريع الذي يستدعی به طلب الامتثال، فكان من الواجب فهمه بالقدر الذي يضاء به درب الاستنباط في الاجتهاد والتشريع.
 
وذلك أن الاهتداء إلى معرفة الجوانب المختلفة المستنبطة في الأمر؛ يفتح آفاقا جديدة واسعة. كما يلفت الانتباه إلى وجوب مراعاة تلك الأمور المطوية والمعاني الخفية حين النظر.
 
فإذا أخذنا - مثلا - قوله تعالى: {وأقيموا الصّلاة}. ونظرنا فيه - أي في فعل الأمر وهو أقيموا - النظر العادي المألوف؛ فإننا لا نتجاوز القشور الظاهرة والمفاهيم المعروفة بحكم الإلف والعادة.
 
وأما إذا طبقنا عليه النظر الأصولي - نظر أولي الألباب - الذي يسير على مسلك دقیق مضبوط شامل، وينتقل بالذهن من نقطة بحث ونظر؛ إلى أخرى مثلها، أقول إذا طبقنا ذلك فإن الفكر سيتكون تكوينًا فريدًا بحيث إذا سمع الباحث في علم الأصول فعلَ الأمر؛ قفز إلى ذهنه ذلك المسلك الذي يجب عليه سلوكه في تشریحه وبحثه والنظر فيه من جوانبه المختلفة التي يستنبطها.
 
وإذا تلبس الذهن بهذا النوع من السلوك الفكري فذلك هو المراد والغاية، إذ العلم(1) - حقيقة - هو الملكة التي تفسر بالهيئة الراسخة في النفس؛ والتي تحصل بعد العلم بتكرار المشاهدة .
 
وما قيل في "الأمر" يقال في "النهي" وفيما يجري في هذا المسلك وينتظم في هذا السلك مما يضيء فهمه ومعرفته سبل الاجتهاد، ويتوقف الوصول إلى استخراج الفقه المطلوب من مصادر التشريع عليه.
 
وبعد هذه النظرة المقربة من الغاية التي تتوخى من دراسة هذه المواضع بصورة مستفيضة نخطو خطوة نحو الجهات التي نظر فيها في «الأمر» أولاً.
جهات النظر في الأمر:
 
يبدأ الكلام عن الأمر في "علم الأصول" عن مفهومه وحصر دلالته اللغوية؛ إذا سمع ماذا يفهم منه، بمعنى ماذا يقع عليه لفظ "الأمر" على سبيل الحقيقة؟
 
هل هو حقيقة إذا استعمل في موضع "ما"، وإذا استعمل في غير ذلك الموضع كان مجازًا، ويكون بذلك كلفظ الأسد؛ إذا استعمل في الحيوان المفترس كان حقيقة، وإذا استعمل في الشجاع كان مجازًا؟
 
أو هو لفظ مشترك، فيكون مثل العين التي تطلق على العضو الباصر، وعلى الميزان، والذهب، والشمس الخ؟
 
أو هو متواطئ فيكون مثل اللون الذي يطلق على السواد، والبياض، والحمرة إلخ؟
 
جميع هذه الأقسام قيل إن الأمر ينتمي إليها.
 
قال الإمام الرازي في المحصول:
 
المسألة الأولى: اتفقوا على أن لفظة الأمر حقيقة في القول المخصوص(2).
 
واختلفوا في كونه حقيقة في غيره، فزعم بعض الفقهاء: أنه حقيقة في الفعل أيضًا. والجمهور على أنه مجاز فيه.
 
وزعم أبو الحسين البصري(3): "أنه مشترك بين القول المخصوص، وبين الشيء وبين الصفة، وبين الشأن والطريق" اه.
 
والمختار: أنه حقيقة في القول المخصوص - هذا من كلام الرازي فقط - وقد استدل كل واحد بما يعتبره حجة لنصرة مذهبه واختياره(4).
 
وما ذهب إليه أبو الحسين البصري هو ما ذهب إليه - أيضا - الإمام القاضي أبو يعلى - محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء، شیخ الحنابلة في عصره - المتوفی 458هـ -.
 
قال الشيخ ابن اللحام: "وقال بعض المالكية، وبعض متأخري الشافعية: يسمى - أي الفعل - أمرا حقيقة. وأقره عبد الحليم، وذهب أبو الحسين البصري، والقاضي 'أبو يعلى' في الكفاية: إلى أن لفظة 'الأمر' مشتركة بين القول، والبيان، والطريقة. وما أشبه ذلك. قال: 'وهذا هو الصحيح لمن أنصف"(5).
 
ويبدو أن المعتمد عليه في اختيار وتقديم رأي من تلك الآراء هو الحس الذهني. فمن استمع إلى كلمة 'الأمر' وتبادر إلى ذهنه معنی واحد من تلك المعاني دون غيره حکم بمقتضى ذلك، وقال إنه حقيقة في المتبادر لا غير.
 
ومن استمع إليها وتردد ذهنه في المراد المعيَّن بها حكم بمقتضى ذلك وقال إنه مشترك. هكذا.
 
ومن الممكن أن يكون للإحساس الذهني والإدراكي أسباب تؤدي به إلى هذا الاختيار أو ذاك، كمثل الاستعمال العرفي الذي يكون في بلد دون آخر مما يجعل التأثير نابعًا من المحيط العرفي، أو غير ذلك من المؤثرات التي تصيِّر المعنی المتعقل من اللفظ مختلفًا، من غير أن يكون ذلك من الإيحاء الذاتي من اللفظ.
 
ومن هنا تكون الأدلة النقلية - إن أفادت المعنى المطلوب - کافية في المراد، والله تعالى أعلم.
 
يتبع ...
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) قال البناني: "واعلم أن مسمی کل علم يطلق على مسائله التي هي القواعد الكلية، ويطلق على إدراك تلك القواعد، وعلى الملكة الحاصلة من إدراكها ...". [حاشية البناني على شرح المحلي (34/1)]. قال الشربيني معلقا عليه: "ويطلق أيضًا على ملكة الاستحصال، أعني التهيؤ القريب لجميع المسائل؛ بسبب حصول المآخذ والشرائط... وفيه - أي شرح المواقف - إنه وإن صح إطلاق الملكة على ذلك التهيؤ ... لكن إطلاق أسماء العلوم المدونة إنما هو على ملكة الاستحضار."
 
2) المراد بالقول المخصوص كلمة افعل (بصيغة الأمر) وما شابهها معنی.
 
3) عبارة «البصري» في «المعتمد»: "اعلم أنه لا شبهة في أن قولنا: "أمر" يقع على جهة الحقيقة على القول المخصوص. وذلك غير مفتقر إلى دلالة. واختلفوا في وقوعه على الفعل. فقال أكثر الناس أنه يقع عليه على سبيل المجاز. وقالت طائفة من أصحاب الشافعي: إنه يقع عليه على سبيل الحقيقة. وقالت لذلك: إن أفعال النبي – صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، لأنها داخلة تحت قول الله سبحانه: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63]. وأنا أذهب إلى أن قول القائل 'أمر' مشترك بين الشيء والصفة، وبين جملة الشأن والطرائق وبين القول المخصوص". [ص 39 ج 1].
 
4) استدل من قال إنه حقيقة في «الفعل» أيضًا بنصوص نقلية. انظر: إرشاد الفحول [ص: 165]. واستدل من قال إنه مشترك بتردد الذهن في المراد به - أي بلفظ الأمر - إذا سمع. وانظر المعتمد [الجزء:1 (ص: 39، 40)] وإرشاد الفحول [ص: 165،166] وإحكام الأحكام للآمدي [الجزء:1 (ص: 189،190)].
 
واستدل القائلون بأنه حقيقة في القول المخصوص؛ بكون المتبادر إلى الذهن عند سماع لفظة الأمر [إرشاد الفحول، ص:165].
 
 

شارك على:

إضافة تعليق

أوقات الصلاة

القائمة البريدية

للتوصل بجديد الموقع وتفريغات الدروس والمحاضرات المرجو الاشتراك بإدخال بريدك الإلكتروني إشتراك

تابعنا على الفيسبوك

إحصاءات الموقع

متصل الآن:31

اليوم:207

الأمس:829

هذا الأسبوع:2494

هذا الشهر:9048

هذه السنة:94302

منذ البداية:394046