علامات الفكر المتهافت [11]: فقد الشروط التي يتوقف عليها حصول المعرفة المطلوبة.
بدهيّ أنَّ الشَّيء لا يُتوصّل إليه إلَّا بتوفّر وسائله وشروطه.
ولا يوجد إنسان استجمع شروط ووسائل كسب المعارف وإدراك الحقائق كلّها، فهو إن علم أمورًا تمكِّنه من کسب معارف معيّنة؛ فاته ما لا حصر له من ذلك من کسب معارف وعلوم أخرى لا حصر لها، فمن طلب علمًا ما وجب عليه أن يطلبه من معدنه متلبّسا بشروط تحصيله وإدراكه.
وهذا أمر معلوم بالضّرورة، لكن ما قد يخفى عن بعض النّاس هو أنَّ الشّروط الّتي تمكّن من الإدراك المعرفيّ لا تنحصر في الشّروط المادّيّة - علوم الآلات ونحوها - بل من ذلك - أيضًا - الشّروط المعنويّة - الشّروط النّفسيّة ومستوى الإدراك -.
وهذه الشّروط المعنويّة هي الّتي يهمنا ذكرها في هذا المقام، وبيان أنَّ الإخلال باعتبارها مفسد للمعرفة المبنيّة عليه؛ وذلك أنَّ المعرفة الدّينيّة متوقّفة على هذه الشّروط توقّف المسبّب على السّبب، فطلبها بدون ذلك عبث، وانحراف عن جادّة الصّواب، وهذه حقيقة يدركها من مارس النَّظرَ على إنصاف في هذه المعرفة، وأحوالها وأحوال أهلها.
والنّصوص الدّينيّة «نصوص القرآن والسّنّة» صادعة بهذا، قاضية به على قطع.
فما منع الإيمان بالخالق وصدّ عنه من الكبر والعناد، والتّمسّك بتأليه النّفس؛ هو نفسه الحاجز الذي يمنع من إدراك هذه المعرفة على ما هي عليه من حال في واقع الأمر، وذلك يتفاوت بتفاوت درجات وجود هذا الحاجز، وقوّته في النّفوس.
والّذين لا يُعرّجون على هذا الذي سبق من أنّه لا بدّ في المعرفة الدّينيّة من هذه الشّروط الّتي تحصل بها، يترفّعون عن هذا الأمر ويعتبرون أنّه انحطاط في الفكر، وفي مجرى بناء المعرفة الحقيقيّة.
وهذا إنّما كان منهم عن غرور وصلف، وسوق أحكام تنزيلها على ما لا علم لهم به.
وأيّ عيب يجري على منهج من تجرّد من الأحكام الّتي ليس لها أيّ مأخذ سوی نفس مقيّدة بالأهواء والرّعونات الصّادّة عن الإبصار، ودرس هذا الأمر على حسب ما يقتضيه حاله من التّؤدة والتّنقيب عن كلّ ما يوصل إلى الحقيقة فيه.
لا ريب أنّ هذا ليس فيه ما يصمّ، أو يقدح في ذلك، بل هو دليل على الإنصاف، وطلب المعرفة من أدلّتها، وإعطاء كلّ أمر مدّعى ما يستحقّه من النّظر، والاعتبارات حتّى يتبيّن أمره على ما هو عليه حقيقة.
فالمتديّنون يرون أنّ من جحد بالحقائق الدّينيّة والآيات القاضية بها؛ إنّما كان منهم ذلك لفقدهم أهليّة فهم هذه الحقائق وإدراك هذه الآيات على حقيقتها.
وهذا أمر بالنّظر العقلي المجرّد غير بعيد، بل قد يكون حقّا، لأنّ التّغاير والتّباين في الأحوال النّفسيّة والفكريّة بين الطرفين أمر ثابت لا شكّ فيه، فإنّه ثابت على قطع.
وهذا الأمر موجب للنّظر والبحث لمعرفة مَنْ مِنَ الطّرفين بمقتضى ما قام به من الأحوال يكون مؤهّلا لكسب هذه المعرفة على الوجه الصّحيح، ومَن منهما الجدير بذلك؛ بحكم أنّه الأقرب معرفيًّا ونفسيًّا.
والّذي يظهر أنّه الحقّ في هذا الشّأن هو أنّه لا مساواة بين من تلبّس بأمر ما نظرًا وعملاً، ظاهرًا وباطنًا، وجعل قلبه وعقله وعاء لكلّيّاته وجزئیّاته، وبين من نظر إليه من خارج، من غير تلبّس بما يمكنه من معرفته الصّحيحة، ثمّ حكم عليه بلا رويّة ولا تدبّر وإنّما بمقتضى ذلك فقط.
فالمتديّن الحقّ أمور الدّين قائمة به، يراها ويتذوّقها منکشفة له، تمسّ حقائقها قلبه وعقله، مقارنًا بينها وبين ما يصدقها من الحقائق الخارجيّة والبراهين المختلفة، واقفا عند كلّ كدر وغبش يعرض له في ذلك إلى أنْ يزول عنه، وينفصل عنه، سابرًا لأغوار كلّ مسألة دينيّة تعرض لقلبه وعقله لمعرفة الحكم الصّحيح فيها، ملاحظا للتّغيير النّفسيّ والفكريّ الّذي اعتراه من عمله بالأوامر والنّواهي الشّرعيّة والتزامه بمقتضاها، وهو تغيّر يصير به مزاجه مصوغا على وفق متضمّنات النّصوص الدّينيّة وأحكامها فهواه تابع لها، فيجد قلبه يستعظم ما هو معظّم شرعًا، ولا اعتبار عنده لما حكم الشّرع ببطلانه، وحقارته كيفما كان.
وهذا حالٌ قائمٌ به، فانفصاله عنه نادر، وقد يكون لعارض لا يلبث أن يزول.
والتّفاوت في ذلك يكون بحسب تفاوت درجات التّديّن، التّابع لقوّة العمل وموافقته للشّريعة.
وأمّا غير المتديّن ممّن ينكر صحّة الدّين ومتضمّناته فإنّه على نقيض ذلك حاله، وقلبه، فهو في منأى عن أمر الدّين الحقّ، مغلول مقيّد بما تلبّس به من أحوال صارفة له عن التّحلّي بما قد يوصله من الأحوال والصّفات إلى الإحساس بحقائقه - أي الدّين - وعلومه الموزّعة بين العلم الكسبيّ، والعلم الحصوليّ، وإلى ملاحظة التّغيّر الّذي قد يجري في طبعه بذلك.
وبهذا فإنّه إنْ وصف الدّين إنّما يكون وصفه له وصفًا مبنيًّا على التَّخيُّلِ، والتّوهّم، لا على الإدراك الصّحيح الذي لا يتأتّی ادّعاء کسبه لمن لم يتلبّس بما يوصل إليه من نظرٍ وعملٍ.
هذا ما اقتضاه الواقع وحكم به، إذ كيف يمكن لك أن تحكم حكمًا صحيحًا على أمر وجدانيّ عقليّ وأنت ما نظرت إليه نظرًا كافيًا بشروطه، ولا ذقته بقلبك - وجدانك - على الصّورة الّتي يمكنك إدراكها من تصوّر حقيقته، والعلم بها، بل ما ذقته ولا عملت به لتكون والجًا إليها مطّلعا عليه من الدّاخل الّذي منه يكون تمام إدراك حقيقته؟!
لا ريب أنّ ذلك لا سبيل إليه، وهذا أمرٌ مدرك بالضّرورة العقليّة، وحكم الواقع.
إذا تقرّر هذا علمت أنّ كسب المعرفة الدّينيّة على الوجه الصّحيح متوقّف على التّحلّي بالصّفات - الشّروط - الّتي توصل إليه، وقد تقدّم أنّها الصّفات القائمة بالمتديّن الحقّ، وأنّ من تجرّد من ذلك وتلبّس بأضداده ممنوع بمقتضی حُكمَي العقل والواقع من هذا الكسب.
وأهل الالتزام بالدّين متفاوتون في درجات هذا الكسب على قدر تفاوت درجاتهم في هذا الالتزام - ظاهرًا وباطنا - فكلّ يأخذ قلبه وعقله من ذلك على قدر التزامه به، وصفاء قلبه المطلوب لهذا الإدراك، وبذلك فإدراك بعض المسلمين لأسرار دینيّة كالمعجزات القرآنيّة دون غيرهم منهم؛ مردّه إلى هذا الأمر. هذا هو الظّاهر في هذا الشّأن.
وكذلك حال الملحدين فإنّهم يتفاوتون في درجات جهلهم بحقائق الدّين الحقّ على قدر تفاوتهم فيما قام بهم من الصّفات الموجبة لذلك - كالكبر، والغرور، والعناد، وعدم التّلبّس بما يمكّنهم من فهم هذه الحقائق - ممّا مضى ذكره.
وقد يكون ذو الفكر الّذي لم يقُده الهوى والحقد في مجاري نظره وإن كان ينكر صحّة الدّين؛ أقرب إلى درك الحقّ إن هو مضى على التّنقيب والبحث عن حقيقة هذا الأمر، لأنّه بذلك قد يدرك يومًا ما المعالم الّتي قد يهتدي بها إلى الحقّ في ذلك فيتغيّر رأيه وحكمه الأوّل الّذي ليس له أيّ أساس سوى الجهل.
وأغلب العلمانيّين الملحدين ليسوا من هذا الصّنف، إذ حقدهم على الدّين وخاصّة دين الإسلام حقد طبعيّ - طبعوا عليه - راسخ، وقد تقدّم ذکر موجب ذلك، وهذا النّوع من الحقد خطير يعمي، ويصمّ، ويورث الجهل المركب.
والأصل في طبيعة الحبّ والبغض العَقدِييْن أن يكونا حادّین شدیدیْن، قاهريْن، وقلّما يتخلّف فيهما هذا إلَّا عند من لجم نفسه بالحكمة، وبذلك فإنّه من الواجب أن يتنبّه لهذا الأمر، فإنّه بالخضوع له مُخرج عن الصّواب، وصادٌّ عن الإنصاف.
يتبع ...
إضافة تعليق
أوقات الصلاة
القائمة البريدية
تابعنا على الفيسبوك
إحصاءات الموقع
متصل الآن:8
اليوم:62
الأمس:829
هذا الأسبوع:2349
هذا الشهر:8903
هذه السنة:94157
منذ البداية:393901