علامات الفكر المتهافت [8]: إلغاء اعتبار الإمكان - الاحتمال - الذّاتي.
يقدح في صحَّة النَّظر بناؤه وصوغه على إلغاء الأمر المحتمل عقلاً وواقعًا؛ دون بيان وجه إلغائه، وموجب عدم اعتباره.
وذلك لأنَّ من حقِّ الأمر المحتمل الالتفاتُ إليه في مجاري النَّظَرِ وبناء الأحكام، حتَّى يُتأكَّدَ من أنَّه أمرٌ واقعٌ في الخارج، أو أنَّه مجرَّدُ احتمالٍ ذهنيٍّ جائز الوقوعِ فقط لكنَّه لم يقع.
ولا يكفي في هذا الشَّأن أن يُقصى احتمالٌ ما باعتبارِ أنَّه احتمالٌ بعيدٌ في نظر مُقْصِيهِ، لأنَّه وإن كان بعيدًا في نظره، فإنَّه قد يكون في واقع الأمر قريبًا؛ بل يكون أمرًا واقعيًّا، وإنَّما كان بعيدًا في نظره لأنَّه لم يكن بحيث يدرك حقيقته، ويراه على ما هو عليه؛ فالحقيقة لا تعرف بأحكام النُّفوس، ولكنَّها تعلم بالأدلَّة والبراهين القاضية بها في واقع الأمر.
فطلب العلم بأمر ما حركة ذهنيَّة أينية - رحلة -، ودرك ذلك العلم قد يتوقّف على إدراك أمور على سبيل التَّدرُّج حتَّى يتوصَّل إليه، وهذه الأمور قد تكون نفسيَّة، وقد تكون ذهنيَّة، وقد يستغرقُ ذلك دهرًا طويلاً، وبذلك فالحكم على أمرٍ ما دون استتمام النَّظر في شأنه خطأ، وشهادة زور، وخاصَّة إذا اقتصر في ذلك على النَّظر إلى شبهة في جهةٍ واحدةٍ منتقاة عن هوى وغرض - مرض - في النَّفس، وأهملت جهات أخرى هي الأولى بالاعتبار، لأنَّ أحكامها ومقتضياتها مزيلة بالدَّليل والبرهان لتلك الشُّبهَة قطعًا.
وإذا تقرَّر هذا أدركت أنَّ إقصاءَ اعتبار صحَّة الدِّين ومضامينه من قِبَلِ الملحدين من غير نظرٍ صحيح في شأنها أو تأمّل في حقيقة أمرها على هذا الوجه المطلوب الموصل إلى الوعي بهذه الحقيقة والاقتصار على أوهامٍ وشبهاتٍ في شأنه خروجٌ عن مقتضيات العقول، وعن المنهج الصَّحيح في فهم الأشياء على ما هي عليه حقيقة، وتحكيمٌ للأهواء وأحكام النُّفوس المضطربة.
وبدهي أنَّ شروط كلّ أمر إنَّما تعرف من حاله وواقعه، وما قام عليه من خصائص، فذات كلّ أمر بمقتضى ماهيته هي التي يؤخذ منها ذلك، سواءٌ كان ذلك الأمرُ أمرًا ماديًّا أو معنويًّا.
فحال الجبل - مثلا - هو الذي يبيِّنُ ما يتوصَّلُ به إلى صعوده، فشروط الوسيلة إلى ذلك تُعْلَمُ من ذلك الحال، ومثله الخشب، فما يقطع به يشترط فيه أن يكون مناسبًا لذلك.
وكذا سائر الأمور المادّيّة، كما يشهد بذلك الواقعُ والعيانُ. والأمور المعنويّة في هذا الشّأن كالأمور المادّيّة بلا فرق.
فشرط فهم الدّين الإسلامي - مثلا - يجب أن يؤخذ منه على الوجه الذي تقرّر فيه تامًّا من غير زيد عليه أو نقص منه.
ولا تخفى خطورة وجلالة هذا الموضوع - فهم هذا الدّين - وبذلك فإنّه لا بدَّ أن يكون السّعي إليه - كذلك - جليلاً وخطيرًا، فيجب أن يتوسّل إليه بكلّ ما يوصل إليه كيفما كان، وهو ما لا يعرف إلَّا منه حقيقة.
والذي تقرّر في هذا الدّين بنصوص كثيرة وردت في هذا الشّأن أنّه لا سبيل إلى التّرقِّي في فهم هذا الدّين وتصوّر كونه الدّين الحقّ إلَّا بالتَّلَبُّسِ في الظّاهر والباطن بأحوال معينة - شروط اليسرى والاهتداء - وأنَّه لا يعمى عن هذا إلَّا من قامتْ به أحوالٌ خاصّة - موجبات العسرى والضلالة - وهي ضدُّ الأحوال الأولى.
وإذا تقرّر هذا لزم اعتباره والاعتدادُ بمقتضاه لأنَّه المدخلُ والوسيلةُ إلى هذا الفهم والأمر المتحدّى به في ذلك.
إذ لا مانع عقليّ أو عاديّ من جريان الأحكام المترتّبة عن هذا القيام - قيام موجبات العمى - على هؤلاء المنكرين الملحدين، ومن ذلك مقتضى الآية: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]. والآية: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى فكلّها قد تكون عقلاً وواقعًا أحكامها ومقتضياتها قائمة بهم، وخاصّة إذا اعتبر أمر عجيب قائم بهؤلاء؛ وهو خروجهم عن الطبيعة البشريَّة العاديَّة في السّخط والكره لأمور الدّين وأحكامه، حتّى صاروا على الصّفة التي ترد في هذه الآيات نفسها في حقّهم، فمن أين أتى هذا الحقدُ والبغضُ العجيبُ لهذه الأمور وهذه الأحكام؟
هذا أمرٌ عظيم وخطبٌ جسيمٌ يجب أن لا ينظر إليه إلَّا على مقتضى ذلك، فالنَّظر البسيط الذي لا يعمُّ في مجراه كلّ ما يجبُ اعتبارُه في هذا الشَّأن نظرٌ فاسدٌ ساقطٌ بالتَّقصيرِ، ومن ذلك الذي يجب اعتباره في ذلك قضية الإيمان، ووسائله الحقيقيَّة، وأمر التَّكليف والمطلوب به، والوجدان وأسراره، وما يحصل فيه، وتقلُّباته العجيبة التي تكون عن الأمور الدّينيّة غالبًا، وغير ذلك من الأمور التي لا يصحّ النّظر في هذا الموضع إلّا باستحضارها، واعتبارها، وهذا أمرٌ اقتضاهُ واقع الحال في هذا الشَّأن، ومن خالفَ هذا فقد خالف مقتضيات العقول وحكم الواقع.
ومن المعلوم أنّه لا حرّية فكرية حقيقيّة إلّا بتخطّي أحكام النُّفوسِ ومقتضياتِها، والانفكاك عن أغلالها، وقيودها، والتّشمير عن ساعد الجدّ في طلب حقائق الأشياء بما يوصل إليها من وسائل، وسبل، كيفما كانت، ولا يصحُّ أن يصدَّنا عن ذلك غرورُنا المبنيُّ على ادّعاء أنّنا بالبديهة ندرك تلك الحقائق، وكأنَّ كلَّ ما أدرك بالبديهة قد أدركت حقيقته، ثمّ ما الذي أدرانا أن حالتنا الذهنيَّة حالةٌ قامت بها حقيقة الصّواب، والإصابة في الإدراك على كلّ حال، بل ما أدرانا أنَّها حالة صالحة للخوض في مثل هذه الأمور.
لا يوجد دليلٌ يقضي بهذا أويدلُّ عليه على الإطلاق، وبذلك فإنَّه لا بدّ من السَّعي إلى كسب المعارف الَّتي توجِّهُ العقولَ في كلّ موضوع إلى فهمه وإدراك حقيقة شأنه.
وصلاحيَّة الذِّهنِ للنَّظر في الأمور الدّينيَّة لا تكون إلَّا باستحضار ما ذكر وما في حكمه؛ لأنَّه من الزُّورِ والظّلم أن يقصر النَّظر في أمرها على احتمالٍ نفسيٍّ واحد، وهو أنَّها من أساطير الأوَّلين - مثلا - فقط، ويكتفى بذلك دون التبيّن والتّثبُّت من صحَّةِ هذا الاحتمال الذي هو في واقع الأمر احتمالٌ يبتدره من قصر نظره عن الحقيقة واعتاد على القول بالأحكام السَّهلة التي تدلُّ على نفسٍ مشحونةٍ بالغرور، ومصوغة صياغة صيّرتها جامدة راكدة، وعلى معرفة قشريّة سطحيّة، وتعلم منحط، وممارسة سلطة فكريّة وهميّة، وكلّ هذه الأشياء من الآفات النّظريّة الصَّادَّة عن الإبصار، وإدراك الأمور على ما هي عليه في واقع الأمر.
وممَّا يقضى منه العجب أنَّ الاحتمال الذي يلفظه واقع وحال الموضوع المدَّعى وجوده فيه؛ يعدُّ عند هؤلاء العلمانيّين احتمالاً صحيحًا، بل أمرًا علميًّا.
والاحتمال الذي تقتضي أحوالُ موضوعِه وماهيَّتِه صحَّتَه؛ يُعرِضونَ عنه، ويعدُّونه احتمالاً ملغًى اعتباره.
يرد على الذِّهن في هذا الموضوع أمثلة كثيرة، وفي صدرها ما يلوكه جمعٌ من هؤلاء النَّاس في أمر إبقاء الإسلام لأحوالٍ وأفعالٍ كانت تؤتى في زمان الجاهليَّة، وتثبيته إيَّاها.
فهؤلاء يرون أنَّ هذا الذي أبقاه وثبَّته الإسلام من أمور الجاهليَّة جاهليٌّ، وبهذا فالإسلام لذلك مشتمل على أمور جاهليّة منحطة جعلت مشروعة بهذا الدّين، وهي ليست بشيء، فالإسلام إذن ليس يأتي بطائل، وعدَّدوا من ذلك بعض الحدود الشَّرعيَّة، والقسامة، والإيلاء، وما هو من هذا الصّنف.
وهذا لا يخفى أنّه زبدُ نفسٍ تشمئزُّ من الإسلام، إذ من المعلوم أنَّ الإسلامَ لم يبن على الإزالة المطلقة للأفعال والأحوال وإنَّما كان مبتناه على إزالة الباطل وإقامة الحقّ، وذلك قد يحصل بالصّرف عن الاعتقاد الفاسد في التَّصرُّفاتِ والأفعال التي خاللها ذلك الاعتقادُ الصَّحيح فيها من غير إزالتها.
وهذا تحقّق جريانه ووقوعه في أفعال كان عليها أهل الجاهليّة وكانوا بفعلها مشركين؛ إذ صيَّروها عبادة لأوثانهم، ويحتمل أن تكون ممَّا أخذ من ملّة إبراهيم، ثم حُرِّفَ عن حقيقته، وبقي على ذلك إلى أن ردَّه الإسلام إلى أصله، وما كان عليه في حقيقة أمره.
وقد يحصل ذلك بالإزالة المطلقة، إذا كان ذلك هو ما تقتضيه قواعد الإسلام وأصوله، وهذا يمضي في كلّ فعل قبيح بذاته - كمنع النساء من الإرث، وجعلهنَّ مِلْكًا بعد موت الزوج، والرّبا - لا بما يعرض فيه من العوارض المنكرة؛ كالصنف المتقدّم ذكره أولاً.
ومقتضى هذا أنَّ صورة الإصلاح والتَّصحيح الإسلاميّ يجري في كلّ أمرٍ على حسبِ ما يتحقّق به ذلك فيه ويحصل، وذلك قد يكون بكلّ وجه يتأتَّى به ذلك، والغرض الأكبر هو تصحيحُ المعتقدات برفع الظُّلم العظيم - الشرك - فيها؛ وتتميم مكارم الأخلاق، وجعل التَّصرُّفاتِ البشريَّة مضبوطة بالشّريعة، بجريان أحكامها عليها.
والإزالة لما كان عليه أهل الجاهليَّة بالإسلام والإبقاء له؛ يقرّر حكمه على مقتضى هذا الغرض وموجبه.
هذا هو الأمر الثَّابتُ جريان بناء الإسلام عليه، والمحدث من الأمور والمبقى منها به في ذلك سواء.
والمقرَّر المعلوم في شأن بناء الأحكام أنَّ الثَّابتَ لا يرفع بالاحتمال، وهذا تقضي به العقولُ ويشهدُ على صحَّته واقعُ الحال.
وإذا تقرَّرَ هذا عرفت أنَّ الذي عليه هؤلاء النَّاس في بناء الأحكام على الاحتمالات مختلٌّ، وأنَّ انحرافهم في هذا الشَّأن جار على أوجهٍ:
أحدها: إلغاء الاحتمال الواجبِ اعتباره، ودراسته لمعرفة قضيَّته.
ثانيها: ترجيحُ الاحتمال البعيد اتباعًا للأهواء والرَّغباتِ النَّفسيَّة.
ثالثها: الإعراض عن الاحتمالِ الذي تقضي حقيقةُ موضوعه بأنَّه هو وحده المستند الحقيقيّ للحكم فيه، وما سواه تلفظه تلك الحقيقة.
إضافة تعليق
أوقات الصلاة
القائمة البريدية
تابعنا على الفيسبوك
إحصاءات الموقع
متصل الآن:8
اليوم:68
الأمس:829
هذا الأسبوع:2355
هذا الشهر:8909
هذه السنة:94163
منذ البداية:393907